يا ليل الصب متى غده؟!

TT

في صغري كنت أخشى الليل وأهابه، وأتصور أنه مسكون بالعفاريت من كثرة ما سمعت من حكايات العجائز، غير أنني ما إن شببت على الطوق، وبدأت أول بواكير المراهقة المباركة، حتى وجدت أن الليل هو أكبر ساتر بردائه الحالك لكل التسللات المشبوهة للعشاق من أمثالي، ومن يومها لازمته ملازمة لا انفصام منها، وما أكثر ما بثثت له شكواي، وذرفت له دموعي، وعانقت فيه ومن خلاله أروع الكائنات.

كنت وما زلت متهورا في مغامراتي الإنسانية الحميمة، لا أهجع ولا أستكين حتى أحقق مآربي العاطفية إلى الرمق الأخير، وبعدها أتمدد متسطحا بإغماءة عميقة تشخص بها أبصاري في سديم السماء دون أن أرمش، إنها حالة تكاد تكون مستعصية لا يعرفها ولا يفك رموزها إلا من كان له قلب أسد وعقل مجنون.

وأول ما عرفت، وأول ما استهواني هو ذلك المثل الذي سمعته لأول مرة وهو القائل: (مين شافك ياللي في الظلام تغمز؟!)، لهذا استغللتها فرصة وأكثرت من غمزاتي في الظلام لكل حسناء لا أراها ولا تراني.

ومن يومها كذلك صادقت طيور العفاريت من كل جنس، وأصبحت لا أخشى مهالك النحور والخصور، بل إنني أدمنت على روائع الانتحار المتكرر.

وأظن - والله أعلم - أنني أقدمت على الانتحار إلى الآن آلاف المرّات، وفي كل مرّة ينجيني سبحانه وتعالى من الموت المحقق، فله الحمد والشكر والمنّة.

هل جرب أحدكم أن يضرب بأقدامه في الليل البهيم بدون هدى؟!، وأن يقطع المفازات بدون دليل أو رفيق؟!، وأن يسلم أمره للمجهول دون أية شروط؟!

أنا من يفعل ذلك أحيانا إلى درجة الضياع، وأحيانا إلى درجة البكاء واللطم.

ومن الليالي التي حفرت بمخالبها أعماق صدري وأحالت سطحه إلى ندوب غائرة لا يمكن أن تمحى، هي ليلة نمت فيها في (حرّة) خارج المدينة وأنا في طريقي إلى تبوك. والحرّة، لمن لا يعرفها، هي أرض بركانية كل ترابها وحجارتها حالكة السواد.

أوقفت سيارتي وأطفأت أنوارها، وما زلت أذكر أن تلك الليلة في أواخر الشهر الهجري، كان الصمت رهيبا، والسماء صافية لا سحاب ولا قمر فيها، وما إن مددت فراشي على الأرض واستلقيت عليه ورفعت بصري لهذا الكون الفسيح الشاسع حتى صدمني منظر لم أشاهد مثله في حياتي، وكادت تطير من جرائه البقية الباقية من عصافير عقلي، لقد أحسست أن السماء أطبقت على الأرض فعلا، وأن النجوم البعيدة اقتربت وأصبحت في متناول يدي إلى درجة أنني مددتها إلى الأعلى أريد أن ألمسها وأخطف واحدة منها.

إنه شعور لا يمكن تصوره بأي حال من الأحوال، ولا يمكن حتى أن يخطر على البال، لقد تلاشى الأفق، لم يعد هناك أفق على الإطلاق، واختلطت السماء بالأرض، وغدوت أنا مع فراشي وكأننا محلّقان بالفضاء، وتلاشى النعاس من أجفاني، واتسعت أحداقي بانشداه عجيب وأنا أتأمل آلاف النجوم وعشرات الشهب وهي تتهاوى باستعراض (كرنفالي) يخلب الألباب.

هل تصدقون أنني لم أنم تلك الليلة ولا دقيقة واحدة؟!، نسيت أهلي وأصحابي وخلاني والدنيا بأسرها وكل ما فيها من (خرابيط)، وظللت محلّقا في ملكوت الله ساعات هي من أمتع ساعات عمري، وتمنيت ألا تنتهي أبدا، غير أن الفجر داهمني على حين غرّة وحطم بمجيئه كل أحلامي.

ورحم الله الشاعر الذي تساءل بحرقة قائلا: يا ليل الصب متى غده؟!

صحيح، متى، متى؟!

[email protected]