تجنب إمارة طالبان يمنية

TT

وفاة كل من الرئيس السابق للجنة الإنفاق العسكري في الكونغرس جون مارثا (1933 - 2010) ثم صديقه وزميله في اللجنة تشارلي ويلسون (1934 - 2010)، في غضون أيام الأسبوع الماضي، طوت فصلا مثيرا من دور الكونغرس في السياسة الخارجية.

ويلسون، وكان ممثل تكساس في الكونغرس لـ12 دورة (1973 - 1996)، تخرج من الأكاديمية البحرية والتحق بالأسطول وكان من ناشطي الحزب الديمقراطي منذ صغره، خصوصا في أثناء حملة عام 1960 الانتخابية للرئيس الراحل جون ف كنيدي (1917 - 1963)، ونشط في الكونغرس في العقد التالي مؤثرا في سياسة الديمقراطيين والجمهوريين معا.

أهمية ويلسون أنه كان دينامو استراتيجية دعم المجاهدين الأفغان وإقناع الكونغرس بتحويل الميزانية الضخمة لعملية الـ«سي آي إيه» بمد المجاهدين بالأسلحة عن طريق باكستان.

ويتذكر رجال الـ«سي آي إيه» أن ويلسون الذي عرف بـ«الفتي المدلل تشارلي»، لنمط حياته في الحفلات المرحة وإحاطة نفسه بالجميلات من الممثلات والموديلات، سواء من عالم التصوير والرسم أو عالم الموضة، كان بالضبط الشخصية ذات الحياة المزدوجة كأبطال روايات المخابرات. الحياة المرحة العلنية الصاخبة مع الحسناوات في حفلات الرقص كغطاء للحياة السرية الخطرة الجادة، خصوصا في صوره على ظهور الخيل مع المجاهدين الأفغان.

شخصية ويلسون المعقدة ومغامراته، سواء في أروقة التآمر السياسي في واشنطن، والسفارات الأميركية في البلدان التي جندت المجاهدين، أو في باكستان وأفغانستان، استغلتها هوليوود لإنتاج فيلم بعنوان «حرب تشارلي ويلسون»، حيث لعب الدور الممثل توم هانكس المتخصص في أسلوب تطوير الشخصية قبل سبع سنوات.

استغل ويلسون عضويته للجنة المشرفة على الإنفاق والمشتريات العسكرية، ليقنع هو وصديقه، رئيس اللجنة مارثا، الكونغرس بتخصيص ميزانية وصلت إلى 750 مليون دولار سنويا لتحويلها للمجاهدين، مما أسرع بإنهاء الحرب لصالح الغرب بكسب الحرب بالنيابة ضد الاتحاد السوفياتي وإنهاء الحرب الباردة.

واعتبره الرئيس الباكستاني الراحل الجنرال محمد ضياء الحق (1924 – 1988) صاحب الفضل الأكبر في إنهاء الحرب لصالح العالم الحر.

لكن هوس ويلسون ومارثا، والإدارة الأميركية، والكونغرس (ربما من بقايا الفترة الماكارثية قبلها بعقدين) بمحاربة الشيوعية ومساعدة أي تيار تراه الإدارة مقاوما للاحتلال الخارجي، وضع على عيون الإدارة نظارات الرؤية النفقية، أي التركيز على هدف واحد معزول عن التيارات الأخرى والمصالح الإقليمية والعالمية.

النتيجة ارتكاب أخطاء كبيرة جعلت ويلسون نفسه يراجع قراراته في السنوات الأخيرة ويعترف بخطأ الإدارة بعد عدوان «القاعدة» على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر (أيلول).

فبعد أيام من العمل الإرهابي الكبير في 2001 قال ويلسون لوكالة «أسوشييتد برس» إن واشنطن لم تقم بواجبها تجاه أفغانستان، وإنها تتحمل المسؤولية بتخليها عن دعم الشعب الأفغاني بعد خروج السوفيات عام 1989. لكنه اختار أيضا عدم الاعتراف بأخطائه الشخصية.

فمثلا تغاضت الـ«سي آي إيه» - التي تطلع يوميا على كل صحف العالم ومقالات المفكرين المؤثرين في الرأي العام - عن التحذيرات التي أطلقها صحافيون أوروبيون وبريطانيون من بينهم كاتب هذه السطور في «التلغراف» و«الإندبندنت»، وتعليقات في الـ«بي بي سي» - عن مغبة تسليح المجاهدين بالصاروخ «ستينغر» وقت وجود عناصر إجرامية من التكفيريين المطلوبين للعدالة في بلدانهم، بحجة وجود يساريين بين المعلقين.

كان ويلسون على علاقة طيبة بالـ«سي آي إيه»، بل كان ضمن دائرة صنع القرار داخل الوكالة لإمساكه بكيس نقود الدعم، وكان لديه الإمكانيات المادية والاتصالات لتكليف بضعة نفر من الباحثين الأكاديميين لدراسة دوافع البلدان التي جاء منها المجاهدون لحثهم على التطوع للحرب ضد السوفيات في أفغانستان.

ولو فعل لكان أمام الكونغرس أدلة على نشاط مخابرات كثير من البلدان الصديقة، بعقد صفقات «غض النظر» عن التهم الإجرامية ومخالفات الناشطين الإسلاميين من جماعات عنف إرهابية تكفيرية، مقابل الذهاب إلى أفغانستان. أي تخلصت مخابرات دول عربية وإسلامية من مشكلة الإرهابيين بتصديرهم إلى أفغانستان.

ولم تلتفت لجنتا ويلسون والعلاقات الخارجية إلى تقارير جماعات حقوق الإنسان حول فساد إدارة الديكتاتور الراحل ضياء الحق، وتعاميتا عن تقارير صحافية عن تورط مخابرات الجيش الباكستاني مع عناصر مجاهدين تتاجر بالمخدرات، وبيع الأسلحة الأميركية التي منحت مجانا إلى مجاهدين شرفاء، بينما ضاعفتا من تسليحها لعناصر إجرامية وعصابات كونت الطالبان لاحقا.

أحمد شاه مسعود (1953 - 2001)، المرشح السابق لجائزة نوبل للسلام 2002 ووزير الدفاع في حكومة برهان الدين رباني وزعيم التحالف الشمالي (حتى اغتالته «القاعدة» قبل هجوم سبتمبر 2001 بيومين)، الذي حرر كابول من الطلبان وكان من أكثر المجاهدين نظافة يدين، وربما أفضل كرئيس لأفغانستان من غيره، اشتكي لمجموعة من مراسلي الصحف البريطانية في الثمانينات أنه كان يشتري أسلحة كصواريخ «ستينغر» المضادة للهليكوبتر في السوق السوداء من تجار حصلوا عليها من رجال مخابرات «ضياء الحق».

لم يستخدم ويلسون التعليم لمقاومة التأثير المدمر لمدرسي التيار التكفيري في معسكرات بيشاور ومنها جند أسامة بن لادن «القاعدة» واستخدمها الملا محمد عمر مع أموال الكونغرس لتأسيس الطالبان.

ولسبع سنوات بعد انسحاب الروس من أفغانستان بقي ويلسون في الكونغرس دون التحمس لإقناع النواب بتوفير ميزانية للتدريس والتعليم والرعاية الاجتماعية في أفغانستان لمقاومة نفوذ الطالبان، خصوصا أن ثمن صاروخ «توماهوك» يمكن أن يبني مدرسة أفغانية ويغطي ميزانيتها لثلاث سنوات.

ووقف يتفرج على استيلاء الطالبان على الحكم، بل عاصر دعوة وفد من الطالبان لتكساس عام 1998 للتفاوض مع شركات بترول لبناء خط أنابيب عبر أفغانستان (اشتكى أعضاء الوفد من صعوبة الوضوء لعجزهم عن تشغيل صنابير المياه!).

ولعل الأميركيين يتخذون من مغامرة ويلسون في أفغانستان العبرة في رسم استراتيجية مقاومة «القاعدة» في اليمن.

الدعم العسكري واستهداف زعماء «القاعدة» بهجمات أرضية أو بصواريخ من الجو خطة أساسية مرحلية، لكن لا يمكن لها النجاح دون استراتيجية سياسية من بناء اقتصاد قوي وقبله تحديث نظام التعليم لمقاومة الفكر التكفيري (يقدر عدد المدارس الدينية في اليمن بـ10 آلاف) وإعادة اليمن إلى القرن الواحد والعشرين.

بناء مدارس ومنشآت تثقيف كمكتبات ومسارح ومعرض فنون سيخلق أيضا فرص عمل (يوجد 300 ألف عاطل من الخريجين في اليمن).

تجربة أفغانستان أثبتت أن خطوط المواجهة الأمامية في الحرب على الإرهاب هي الفصول الدراسية، وإن لم يقف العالم الحر على خطوط المواجهة اليوم فقد نجد ويلسون آخر يعترف بأخطائه بعد عقدين أو ثلاثة بعد وقوع أكثر من 11 سبتمبر، لا قدر الله، في عدة عواصم عالمية.