إيران: منارة للحرية؟

TT

كان الخميس الماضي يوم ذكرى قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، والواضح أن المجتمع الإيراني بات أشبه بصخرة منصهرة تحت وطأة الضغوط الشديدة التي يتعرض لها، وبات من الحتمي وقوع مزيد من ثورات الغضب، وإذا وجد المنشقون أنفسهم قادرين على الخروج إلى الشوارع، سيخرجون إليها.

على أي حال، ينبغي أن تدفعنا الانتخابات الرئاسية الزائفة التي شهدتها إيران في 12 يونيو (حزيران) الماضي، وما أعقبها من اضطرابات داخلية للتساؤل حول ما قد يحدث إذا تحولت إيران بالفعل إلى النهج الديمقراطي، والمحتمل أن الرئيس أوباما ومستشاروه - الذين لا يزالون متمسكين بالتعاون مع طهران والأمل في إمكانية وقف برنامجها لإنتاج الأسلحة النووية على نحو سلمي (على الرغم من تصعيد طهران برنامج التخصيب هذا الأسبوع)، وربما يراودهم الشك في إمكانية فقدان آية الله خامنئي وحرسه الثوري السلطة - لم يولوا اهتماما كبيرا لإمكانية ظهور شرق أوسط من دون الجمهورية الإسلامية بالصورة التي نألفها، على الأقل، لم تضع أي من العقول المفكرة داخل الإدارة المعنية بقضايا السياسة الخارجية خططا للتعامل مع مثل هذا الموقف الطارئ.

بيد أنه بالنظر إلى المشكلات التي تجابه آية الله خامنئي، والاحتمال شبه المؤكد بأن سياسات نظام حكم رجال الدين ستزداد سوءا بصورة ملحوظة قريبا، والاحتمالات بالغة الأهمية المتعلقة بظهور إيران ديمقراطية، ينبغي على البيت الأبيض التفكير لبعض الوقت في هذا الموقف الطارئ المحتمل، حاليا، يواجه خامنئي حركة ديمقراطية تزداد ضخامة على الرغم من افتقارها الكامل للتنظيم وقيادة كاريزمية.

ويعتمد بقاء أو اندحار نظام حكم رجال الدين العسكري في إيران على مدى قوة الحرس الثوري، وهو قطاع من المؤسسة العسكرية أشبه بالحرس الإمبراطوري الروماني القديم تحول إلى كتلة أصولية قادرة على الاعتماد على ذاتها، ومع ذلك، فإن الكثير من أفراد الحرس وأبنائهم، وكذلك أبناء نخبة رجال الدين الحاكمة، من خريجي أفضل الجامعات الإيرانية. ويمكن القول إن التعليم العالي من بين العوامل التي دفعت الإيرانيين باتجاه المعارضة، الأمر الذي لفت انتباه النظام قطعا فيما يتعلق بولاءات العلماء النوويين داخل البلاد.

في الواقع، صوت الكثير من الحراس العاديين لصالح محمد خاتمي، المرشح الإصلاحي في الانتخابات الرئاسية عام 1997، على الرغم من أن كبار الضباط كانوا يمقتونه، والمحتمل أن هذا الانقسام لا يزال قائما.

وتوحي جنازة بعبع النظام، آية الله العظمى حسين علي منتظري، التي شارك فيها مئات الآلاف، بأن النظام الإيراني ربما يجابه مقاومة من داخل المؤسسة الدينية ذاتها.

الملاحظ أن كبار رجال الدين في مدينة قم المقدسة لم يبدوا قط تبجيلا للمؤهلات الدينية التي يتميز بها آية الله خامنئي ودعواه السياسية، لكن إذعانهم له تحقق من خلال سياسات التخويف التي انتهجها النظام وعجزهم عن رؤية أي بديل سياسي، إلا أن أحد العوامل التي عززت جاذبية آية الله منتظري في صفوف المنشقين، الذي ردد رجال دين شيعة آخرون أفكاره منذ وفاته، أن اتباع نهجه المقترح لن يتطلب خلق اختلاف كبير عما عليه الوضع الراهن، ذلك أن مجرد تحرير البرلمان من إشراف رجال دين غير منتخبين سيكون بمثابة خطوة ثورية.

وربما سنعلم جميعا إذا نجحت المعارضة خلال الشهور القادمة في اجتذاب أعداد أكبر من «الفقراء المكبوتين» (موستازافان)، الذين شكلوا القاعدة الشعبية للنظام منذ ثورة 1979، من المحتمل أن تتسبب «الإصلاحات» الاقتصادية التي صاغها الرئيس محمود أحمدي نجاد في مزيد من التردي فيما يخص معدلات التضخم والبطالة السيئة بالفعل، وربما تتميز حركة معارضة تضم الملالي الشباب والبيروقراطيين أبناء التعليم الجامعي من داخل الإدارة المدنية الإيرانية المتضخمة، بجانب شريحة كبيرة من فقراء المناطق الحضرية بقدر بالغ من التنوع يجعل من العسير على الحرس الثوري، خاصة لاعتماده على التجنيد الإلزامي في جزء منه، قمعها.

جدير بالذكر أن الحرس الثوري ارتقى إلى مكانة بارزة لدوره في الدفاع عن البلاد ضد الغزو العراقي، لكنه لم يبدِ حتى الآن استعداده لقتل أبناء وطنه مثلما فعلت الشرطة السرية الروسية أو «الحرس الأحمر» الصيني، الملاحظ في هذا الإطار حجم الوقت والجهود التي بذلها النظام في محاولة التملص من مسؤولية قتل شابة واحدة، ندا أغا سلطان، خلال أعمال الشغب التي اندلعت الصيف الماضي في أعقاب الانتخابات الرئاسية، المؤكد أن نظاما يثق بنفسه كان سيشرع في القتل من دون تقديم اعتذار، ربما يرغب كبار ضباط الحرس الثوري في إطلاق حمام من الدماء بغية الحفاظ على الوضع القائم، لكن آية الله خامنئي، الذي يفتقد الإرادة الصلبة القاسية لمؤسس الجمهورية الإسلامية، آية الله الخميني، لا يبدو راغبا في ذبح الإيرانيين أو جعل نفسه رهينة في يد حاشيته السياسية.

عندما يبدأ نظام ما في الانهيار، يصبح المستحيل ممكنا، ومن الممكن أن يشرع أنصار خامنئي في التفكير والتساؤل حول ما إذا كان نفوذهم سيبقى في إطار نظام سياسي أكثر انفتاحا، ويشير صحافيون إيرانيون في تقارير لهم إلى أن أعضاء سابقين من الحرس الثوري انضموا إلى المعارضة، مما يمثل إشارة إلى أقرانهم السابقين توحي بإمكانية احتفاظهم بمكانتهم في ظل نظام جديد، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها النظام لغسل مخ أفراد القوات الأمنية، فإنه حال دون سقوط مزيد من الإيرانيين قتلى، فإن أفراد الحرس العاديين ربما يتخلون عن قناعاتهم ويقررون الامتناع عن إطلاق النار. وربما يكون اندلاع ثورة ديمقراطية في إيران الحدث التاريخي الأبرز في الشرق الأوسط منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، ذلك أنه من شأن ظهور إيران تتمتع بحرية سياسية أكبر تسليط الضوء على النقاش الإسلامي السائد منذ أمد بعيد حول كيف يمكن الجمع بين الإسلام الحق والديمقراطية؟ كيف يمكن احترام الشريعة الإسلامية لكن مع تخويل السلطة الكبرى إلى الممثلين المنتخبين عن الشعب؟ كيف يمكن للمسلم نقل أفضل ما يتمتع به الغرب دون أن يساوره شعور بالذنب؟

في الواقع، ناضل المثقفون الإيرانيون كثيرا في تناولهم لهذه المسائل، وعمدوا إلى تطوير النقاش حولها على نحو لم تشهده أي دولة أخرى، على مدار قرن كامل، حاولت إيران بناء حكومة دستورية، وعلى امتداد 30 عاما، ناضل رجال الدين المنشقون ومفكرون علمانيون لإعادة التأكيد على الوعود الديمقراطية للثورة الإسلامية.

وبالنسبة للمنشقين الدينيين على وجه الخصوص، يجري النظر حاليا إلى الديمقراطية باعتبارها حجر زاوية لنظام ذي طابع أخلاقي أكبر لا يجري في إطاره استغلال الدين لتبرير الحكم السلطوي، من ناحية أخرى، تمثلت واحدة من الافتراضات التي قام عليها خطاب الرئيس أوباما الذي وجهه إلى العالم الإسلامي من القاهرة العام الماضي في أن واشنطن بمقدورها العمل مع أنظمة استبدادية ضد التطرف، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يتمتع المسلمون بالحرية السياسية كي يتصدوا للحركات الإسلامية المسلحة، إلا أن تاريخ تطور المسيحية، التي لم تشهد قط الاندماج العميق بين السلطة الدينية والدولة المميز للإسلام، ينبئنا بدرس مغاير، وهو أن التطور السياسي في الغرب - من الاستبداد إلى الديمقراطية - هو الذي ساعد في القضاء على الصبغة السياسية للمسيحية، أكثر من أي عامل آخر.

الواضح أن العملية ذاتها يمر بها الإسلام داخل إيران، لكن بوتيرة أسرع بكثير عن الحال في الغرب، وعليه نجد أن ملايين الإيرانيين - من أبناء وبنات ثوريين مخلصين - اصطبغوا بالصبغة العلمانية، وبينما تسببت أنظمة استبدادية علمانية ذات طابع غربي مثل نظام الشاه في صعود الراديكالية الدينية، فإن النظام الاستبدادي الديني الإيراني أدى إلى تنامي العلمانية على نحو من المحتمل أن يدوم بالنظر إلى أن الإيرانيين المتدينين وغير المتدينين ينظرون على نحو متزايد إلى وجود حكومة تمثيلية باعتبارها أمرا لا غنى عنه.

من المحتمل أن يخلف هذا الوضع تأثيرا عميقا على المسلمين بشتى الأرجاء، في الشرق الأوسط، دفعت الثورة الإسلامية الإيرانية بالأصولية الإسلامية إلى المقدمة، وحتما سيؤدي تحول إيران إلى الديمقراطية إلى هزة عنيفة في أوساط الأصوليين السنّة، الذين ناضلوا أيضا في مساعيهم لحسم التوتر بين الشريعة المقدسة والتصويت الديمقراطي، الملاحظ أن العرب السنّة غالبا ما يحلو لهم التظاهر بأنهم يعيشون في عالم مختلف عن أبناء عمومتهم من الشيعة الإيرانيين، لكن الحقيقة على النقيض من ذلك تماما، ومع صعود الديمقراطية في إيران، ستزداد جرأة الليبراليين العرب والإسلاميين السنة في مطالبهم. كما أن التحول الإيراني من شأنه تذكير «حزب العدالة والتنمية» الإسلامي الحاكم في تركيا، الذي يتراجع التزامه بالقيم الديمقراطية على نحو متزايد، بأن التوجهات الاستبدادية تولد الثورة، كما أن ظهور ديمقراطية إيرانية سيترك تأثيرا قويا على العراق، الذي ناضلت حكومته المنتخبة في مواجهة قوى شيطانية تدعمها طهران، ولا شك أن إيران ديمقراطية لن تبدي كثيرا من التعاطف مع العراقيين الذين يفضلون الحكم الاستبدادي والتوجهات الدينية المسلحة.

من المحتمل أيضا أن تقلص طهران الديمقراطية من مساعداتها لحزب الله في لبنان والنظام البعثي في سورية، ومن المحتمل أن يشهد البرلمان الإيراني الديمقراطي نقاشا محتدما حول الأصوليين الفلسطينيين الذين يتلقون حاليا تمويلا إيرانيا ضخما، وكذلك المساعدات المخصصة للجماعات السنية الراديكالية الأخرى بمختلف جنبات الشرق الأوسط وعلاقات إيران بـ«القاعدة» (التي وردت تفاصيلها في تقرير اللجنة المعنية بالتحقيق في هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001)، ويمكن أن تتحول إيران بسهولة إلى ما تمناه آية الله الخميني - نموذجا يحدث تحولا في الشرق الأوسط - وإن كان في اتجاه لم يأمله.

وأخيرا، فإن ظهور إيران ديمقراطية سيترتب عليه إعادة فتح السفارة الأميركية هناك، وهو إجراء رمزي يحمل أهمية كبرى ويحظى بتأييد واسع منذ فترة بعيدة في أوساط الإيرانيين العاديين، وبذلك سيختفي «الشيطان الأكبر».

في الواقع، ليس هناك ما يمكن أن يخسره الرئيس أوباما إذا ما تحرك بعيدا عن التعاون مع آية الله خامنئي ونحو التعاون على نحو أكبر مع سعي الشعب الإيراني وراء السيادة الشعبية، وينبغي توجيه الخطابات الأميركية والعقوبات الرامية لوقف واردات إيران من الغازولين والمساعدات السرية الموجهة للمنشقين بحيث تعزز القضية الديمقراطية، ويحظى أوباما على هذا الصعيد بشريك أبدى استعداده علانية للتعاون معه، وهو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، مما يجعله قادرا على تحويل الحرية الإيرانية إلى قضية عبر - أطلسية.

وينبغي أن تدرك الإدارة جيدا حقيقة الموقف وهي أن نظام آية الله خامنئي يعاني من جنون الاضطهاد على نحو لا براء منه، من وجهة نظر هذا النظام، تتحمل الدول الغربية، التي لم تفعل أي شيء تقريبا لمساعدة الحركة الديمقراطية في إيران، نفس القدر من المسؤولية عن مشكلات إيران مثل المنشقين أنفسهم، وسيسعى المرشد الأعلى إلى سبل الانتقام من الغرب بسبب ذلك، ولن يتخلى عن الأسلحة النووية، لكن إيران الديمقراطية ربما تتخلى عنها.

من دون وجود فزاعة «الشيطان الأكبر» وحلم الهيمنة الإقليمية، سيجد البرلمان الإيراني تحت وطأة مطالب الشعب أمورا أهم بكثير من تخصيب اليورانيوم لإنفاق أموال الإيرانيين عليها، وإذا انهار نظام حكم رجال الدين، سينسب إلى أوباما فضل تحقيق ذلك، مما سيكسبه مكانة لا يمكن لأي مبادرة أخرى خارجية أو داخلية الوصول به إليها.

* زميل بارز لدى «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات»، ومتخصص سابق في الشؤون الشرق أوسطية لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية.

* خدمة «نيويورك تايمز»