الطُعم والطعام والسياسة

TT

لصيد السمك بالسنارة يُربَط طعم تبتلعه الأسماك فيسحبها الصياد ليأكلها بدوره. ويضع الإنسان طعما في الفخ لاصطياد الطرائد الأكبر على الأرض. الإنسان وحده هو الذي يقتل لمجرد القتل. لا تقتل الحيوانات إلا من أجل البقاء.

«أنت ما تأكل»، (you are what you eat) هكذا يقول الأميركيون، وأكل الإنسان دليل ثقافته وانعكاس لطريقة تفكيره في أشياء كثيرة. فـ«المعدة بيت الداء» كما يقول الحديث الشريف، و«ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه» في حديث آخر. والفحوص الطبية الحديثة تتعرف على علل وصحة الإنسان من خلال فحص عينة من فضلاته. وينصح الأطباء بالتقليل من الأكل قدر الإمكان، وبتنوعه بلقيمات تكفيه وتسد رمقه.

أوصى فقير معدم ابنه الذي لم يترك له شيئا في الدنيا بثلاث: لا تنم إلا وأنت تعبان منهك، ولا تأكل إلا وأنت جائع تتضور، واجعل لك في كل بلد بيتا. وبعد وفاته فهم الولد الوصية: التعبان المنهك لا يطلب فراشا وثيرا لينام، والجائع يأكل أي شيء يقدم له، والبيت في كل بلد هو الصديق في كل بلد.

سئل زعيم عربي راحل عن ألذ وجبة أكلها، فقال: جراد مغلي بالماء والملح. فاستغرب مستمعوه وسألوه الإيضاح فقص لهم: كنت تائها في الصحراء وحيدا ولم أذق الطعام لمدة ثلاثة أيام، وألفيت بيتا لبدو رحل رحبوا بي وقدموا لي الشيء الوحيد الذي يملكونه: جراد غلوه بالماء والملح وقدموه لي وأنا أتضور جوعا فما أكلت في حياتي ألذ ولا أطيب من تلك الوجبة.

وصدق من قال إن الجوع أمهر الطباخين.

في عاداتنا أن «أكل الرجال على قد أفعالها»، وهذا لم يثبت علميا بالطبع، بل يقال عن الشره بالأكل بأنه «بطيني»، أو يقال: «لا يهمه سوى بطنه». العادات في الأكل تعكس ثقافات الشعوب، يأكل الأميركي والألماني وجبة كبيرة تكفي عشرة صينيين، ويقدم العرب أكثر مما يمكن أن يأكله الضيف إمعانا في الكرم. بين الكرم والإسراف فارق شاسع، كان الكرم قديما عند العرب قيمة من القيم التي يحرصون عليها وذلك بسبب الشح والحاجة إلى التضامن الجماعي. فمن يأكل اليوم، قد لا يجد ما يسد رمقه غدا.

وكما في الأكل والصيد، تكون الطرائد والفرائس في السياسة. الإسرائيليون يرفعون شعار المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين «دون شروط مسبقة». وهو شعار «كلمة حق يراد بها باطل». فالدخول في المفاوضات هو شرعنة فلسطينية وقبول فلسطيني بالوضع القائم: احتلال ومستوطنات وتهويد للقدس. ولو بلع الفلسطينيون الطعم لوجدوا أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة، ولتعمقت الشروخ في الصف الفلسطيني الذي لم يمر في تاريخه بمثلما يمر به في هذه المرحلة. لو بلع الفلسطينيون الطعم لصاروا مثل من «طمع في المرقوق، وأفلس من العصيدة» كما يقول المثل الشعبي. فلا سلام سيحصلون عليه، ولا وحدة صف تتحقق.

يرمي الغرب بالطعم تلو الآخر لإيران لتتخلى عن برنامجها النووي الحربي، وتخضع برنامجها السلمي - كما تدعي - للرقابة الدولية، لكن إيران لا تزال ترفض العروض والطعوم الغربية. والرفض الإيراني ينشد مسألتين أساسيتين: ضمان بقاء النظام الإيراني الحالي، والاعتراف بدور الهيمنة الإيرانية في المنطقة. وهي مسألة لا يرى الغرب حاليا مصلحة له فيها في ظل النظام الإيراني الحالي.

لكن الطعم الأكبر والأخطر، هو الحشود العسكرية الغربية في منطقة الخليج تحسبا لابتلاع إيران للطعم بمهاجمة هذه القوات، أو ربما بابتلاع طعم هجوم إسرائيلي جوي على إيران يشعل المنطقة برمتها ويأتي بنهاية النظام الحاكم في إيران.

الجوع أمهر الطباخين، والحكمة أمهر المحاربين.