قصة البائع الإسرائيلي وحقيبته الفارغة

TT

أحدثت تهديدات وزير الخارجية الإسرائيلي (أفيغدور ليبرمان) ضد سورية قبل أيام، التي دفعت وزير خارجية سورية (وليد المعلم) إلى الرد عليه بقسوة، متحدثا لأول مرة عن الحرب الشاملة، وعن الحرب التي ستطال داخل مدن إسرائيل، أحدثت هذه التهديدات ردود فعل كثيرة في إسرائيل، كانت كلها ردود فعل متحفظة أو مضادة له.

صحيفة «يديعوت أحرونوت» مثلا كتبت في 8/2/2010 مركزة على رد فعل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي حاول امتصاص الأثر السلبي للتهديدات، والذي حاول إظهار نفسه، على العكس من وزير خارجيته، رجل سلام، بينما هو لا يقل عنه تطرفا. قال نتنياهو في مستهل جلسة الحكومة: إن وجهة إسرائيل هي السلام، إن إسرائيل تتطلع إلى إبرام اتفاق سلام مع جميع جيرانها، لقد أبرمنا اتفاقات مع مصر والأردن، ومن الممكن أن نفعل ذلك أيضا مع سورية والفلسطينيين. ووضع نتنياهو شرطين لذلك، أولا: أن تجرى المفاوضات من دون شروط مسبقة يكون معناها أن تقدم إسرائيل تنازلات مفرطة سلفا (يقصد نتنياهو هنا أنه لن يقبل طلب سورية أن يتحدد سلفا أن هدف المفاوضات هو الانسحاب الإسرائيلي من الجولان). والشرط الثاني: أن يقترن الاتفاق بترتيبات أمنية، لأن أي تسوية لا تواكبها ترتيبات أمنية لن تصمد طويلا.

وبهذا يكون نتنياهو قدم نفسه رجل سلام ولكن بشروط رجل حرب.

وتكمن في قلب هذا الموقف مناورة إسرائيلية مكرورة، خلاصتها إعلان الرغبة في الذهاب إلى مفاوضات مع السوريين، إنما على حساب الفلسطينيين، وذلك حين تكون المحادثات مع الفلسطينيين قد تعثرت، وهي تتعثر منذ عشرين عاما بالتمام والكمال. ولذلك يقول الكاتب الإسرائيلي عكيفا إلدار «هآرتس» (8/2/2010)، لقد حاول ثلاثة رؤساء حكومات سابقين إغراء الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، بالالتفاف على ياسر عرفات، وتجريب المفاوضات على المسار السوري، وأسفر ذلك عن انتفاضة في الضفة الغربية وحربين في لبنان وغزة، ومن الصعب، يقول الكاتب الإسرائيلي، الاعتقاد أن السوريين على استعداد للتعاون مع إسرائيل في جولة مفاوضات أخرى تكون على حساب الفلسطينيين.

وحول الموضوع نفسه يكتب تسفي برئيل «هآرتس» (7/2/2010)، إنما بلهجة أشد قسوة ضد نتنياهو، يقول: «إن مشكلة إسرائيل مع سورية ليست كامنة في تصريحات وزير الخارجية ليبرمان، وإنما في الادعاء الكاذب أن إسرائيل معنية بالسلام، ذلك أنها غير معنية بالتوصل إلى سلام مع سورية، ولا حتى بالانسحاب من الجولان».

وتتصاعد اللهجة الإعلامية الإسرائيلية ضد نتنياهو وليبرمان ونهجهما، فيكتب (بن كاسبيت) في صحيفة «معاريف» (9/2/2010) واصفا ما يسميه «تبلد المشاعر التام الذي يسيطر على الواقع الإسرائيلي»، ويقول «من ينظر إلى ما يجري في ساحتنا الخلفية يمكنه أن يقشعر، فمن أجل البقاء (في المنصب) يرهن نتنياهو مستقبلنا الصهيوني هنا من دون حساب، يضع العلاقات الخارجية بين اليدين غير المسؤولتين لأفيغدور ليبرمان، ويضع الشؤون الداخلية بين يدي (إيلي بشاي)، وهكذا، حين لا يكون القط في البيت تعربد الفئران. ويختم بن كاسبيت مقالته قائلا «من أجل ماذا يبقى نتنياهو؟ ما هدفه؟ ما أجندته؟ إلى أين يسعى؟ ما الذي يحاول تحقيقه؟ لصالح من أو لمن يعمل؟ كل شيء مجمد. كل شيء عالق. المهم أن نتنياهو موجود في رئاسة الوزراء، وعندما نستيقظ لنفهم إلى أين يقودنا كل هذا، سيكون الأوان قد فات».

وتتصاعد لهجة النقد لنتنياهو مع الكاتب يوئيل ماركوس «هآرتس» (9/2/2010)، فهو يتهم نتنياهو بأنه يمالئ ليبرمان ويستفيد من تصريحاته، ويقول: إن نتنياهو يزايد على ليبرمان بمواقف أكثر خطورة، ويروي عنه أنه حين تحدث وزير خارجيته ضد الدولة الفلسطينية، أي ضد التسوية مع الفلسطينيين، لم يتحفظ نتنياهو على كلام وزير خارجيته. ويروي عنه أنه في نهاية مؤتمر هرتسليا العاشر، قبل أيام، كرر مواقف أكثر حسما، قال «أعلم أن أحد أسلافي، آرييل شارون، تحدث عن الانفصال (الانفصال عن غزة)، وأنا أريد اليوم أن أتحدث عن (التواصل) بالذات، وبالصهيونية، بماضينا وبمستقبلنا، ها هنا في أرض آبائنا وأحفادنا». أي إن ما يريده نتنياهو هنا هو أرض إسرائيل الكاملة، إنما بوضوح وعمق أكبر من كلام ليبرمان، قاضيا بذلك على آخر احتمال لحل مع الفلسطينيين الأشد اعتدالا.

ما المشكلة في هذا كله؟

يجيب ماركوس قائلا: «المشكلة كامنة في عدم وجود قائد حازم لهذه الحكومة، فضلا عن انعدام وجود سياسة مبلورة لها إزاء الموضوعين الفلسطيني والسوري. وإذا أراد نتنياهو أن يظهر كرجل سلام، عليه إخراج ليبرمان وحزبه، وربما حزب شاس أيضا، من حكومته».

ويلخص كاتب آخر الوضع السياسي بجملة واحدة قائلا: «الحكومة الحالية لا ترى في مبادرات السلام الصادرة من سورية مصلحة مصيرية، وردود الفعل الإسرائيلية تنطوي على دلالات سلبية» (أفيغاد كلاينبرغ - أستاذ جامعي). وهو يروي قصة إسرائيلية طريفة، تحمل اسم «الحقيبة الفارغة». تقول القصة:

«بائع متجول. يدق الأبواب مع حقيبته ويعرض بضاعته: أمشاط، شفرات حلاقة، أقلام. استمع مواطن إلى هذا النداء ومل من تكرار البائع المتجول. وذات يوم أراد هذا المواطن أن يتخلص من هذا البائع اللجوج، واجتهد أنه إذا اشترى شيئا منه فسيكف عن النداء المتكرر، فتوجه إليه، وطلب منه أن يشتري مشطا، وفوجئ بأن البائع لا يبادر إلى تلبية طلبه، بل يواصل الصياح وتكرار النداء: أمشاط، شفرات، أقلام. وحين مل المواطن من الطلب الذي لا جواب له، سحب حقيبة البائع عنوة وفتحها، ولكنه فوجئ بأن الحقيبة فارغة، وهنا دار بينهما الحوار التالي:

المواطن: أين البضاعة؟

البائع: أنتم لا تشترون أبدا.. فلماذا أحمل البضاعة عبثا؟

المواطن: إذن لماذا تتجول بين البيوت بحقيبة فارغة؟

البائع: سيدي.. على الإنسان أن يعتاش من مهنة ما».

الإعلان الإسرائيلي المتكرر عن الرغبة في السلام، هو تجسيد حقيقي لهذه القصة، فحقيبة البائع الفارغة يمكن الاعتياش منها طالما أن لا أحد في إسرائيل يريد أن يشتري، لا مشطا ولا سلاما.

يروى أيضا أن البائع الإسرائيلي لم ييأس، وذهب بعد ذلك في حال سبيله، وظل ينادي وينادي: أمشاط، شفرات، أقلام. وصادفه مفاوض فلسطيني، وطلب منه أن يشتري، ففتح له البائع الحقيبة الفارغة، وفوجئ بأن المفاوض الفلسطيني نظر داخل الحقيبة بتمعن، ثم أخرج منها مشطا، ثم دفع ثمنه وهو يعبر عن فرح شديد، ثم بدأ بتمشيط شعره، بينما البائع يزداد دهشة فوق دهشته.

وهكذا تتواصل عملية البيع والشراء. أحيانا بشكل مباشر. وأحيانا بشكل غير مباشر. أما «التاجر» المزود لبائعي الشنطة بالبضائع، فإنه يقف مراقبا للأمر عن بعد، وتلوح على وجهه علامات البهجة والسرور، فعمليات البيع مستمرة ومتصلة، وهو يجني منها الأرباح باستمرار. وأحيانا يقول لمن حوله: أنا التاجر ميتشل هل ترغبون بشراء الحقائب؟