حيِّ التلميذة المجهولة

TT

أثارت مقالتي «العلم والعمل» التي أشارت إلى صورة طفلة سورية تبيع الحلوى وتكتب واجباتها المدرسية في عين الوقت كثيرا من التعليقات. كان منها رسالة من المفكر العراقي د. كاظم حبيب يعرب عن استحسانه وفي عين الوقت اعتراضه على قيام طفلة بالعمل خلافا لمقررات الأمم المتحدة نتيجة «الفقر والفاقة التي تجبر عوائل فقيرة على إرسال أبنائها للعمل في فصل الشتاء».

هذه نقطة لا يسعني غير أن اتفق وإياها. هناك موجة احتجاج عالمي ضد استغلال الصغار في العالم الثالث في إنتاج ما تريده الشركات الكبرى من بضائع بأبخس الأجور. ومع ذلك فهذه الطفلة لم تكن تعمل في معمل أو ورشة أو مزرعة لأي أحد. كانت فقط تبيع حلوى بمحض إرادتها واختيارها. أنا شخصيا أعتقد أن قيامها بذلك جزء من تعلمها شؤون الحياة وتمرين آخر لملكاتها ومعارفها، دون شك أفضل من قضاء الساعات في التفرج على التلفزيون مما يفعله أبناء الذوات.

علق آخرون على فكرة إقامة تمثال للتلميذ المجهول واستحسنوها. رغم أنني ألقيت الفكرة كمجرد هذرفة من الكتاب، ولكنني أصبحت مثل جحا الذي أراد أن يتخلص من مضايقات الصغار فوجههم إلى وجود حفلة عرس في الجانب الآخر من المدينة. ثم تأمل قليلا وصدّق ما قاله وراح يجري وراءهم.

يجب أولا أن نتذكر مدى ما جاد به تلامذة المدارس والكليات من جهود وإنجازات في سبيلنا. فكل هذه المعارك الكبرى التي خاضتها بلادنا من أجل الاستقلال والتحرر والمساواة وحقوق الإنسان، من قام بها؟ دون شك لم يقم بها العساكر، وإنما طلبة المدارس والجامعات الذين أراقوا دماءهم واستُشهدوا في شوارع القاهرة وعلى جسور بغداد وميادين دمشق وسواها من المدن العربية وتحدوا بصدورهم رصاص الشرطة والعساكر من أجل حقوقنا ومستقبلنا. ماتوا ولم نعد نتذكر حتى أسماءهم. ألا يستحقون منا شيئا يذكّرنا بهم؟

كل ما في يدنا نحن مدينون به لهم. وكل ما سيحمله مستقبلنا إلينا سيقوم على أكتافهم وبسواعدهم، بأقلامهم وأدمغتهم وجهودهم. أفلا يجدر بنا أن نتذكر ذلك ونقوم احتراما له؟ أما آن الوقت لنقيم نصبا تذكاريا رائعا للتلميذ المجهول أو الأفضل، التلميذة المجهولة، بدلا من كل هذه التماثيل والأنصاب السخيفة؟

دعوني أُهِيب بالمسؤولين في سورية، ما دامت هذه الصبية الصغيرة من تلامذة المدارس السورية، أن يمسكوا بهذه المبادرة، ويُجرُوا مسابقة عالمية تحت إشراف اليونسكو لأحسن تمثال مستوحى من صورة هذه الصبية التي لا نعرف اسمها ولا هويتها، ليقام في أحد ميادين دمشق الرئيسية باسم «التلميذة المجهولة»، يخلد كل التلاميذ في العالم ممن بذلوا حياتهم من أجل شعوبهم ومن أجل النهوض وسيادة الفكر والعلم والحرية. فلتكن الجمهورية السورية أول دولة في العالم تقيم نصبا للتلميذ المجهول، نصبا يهيب بكل الشعوب المتخلفة أن تهب لمكافحة الأمية ونشر المعرفة واحترام حق المواطن في التعلم وحق الكاتب في حرية الفكر.