جيل محظوظ

TT

«يا للهول!» قلتها حين طالعني وجه طفل في السادسة على الشاشة اللندنية الصغيرة: جزء من حملة لتوعية الأطفال. يخاطب الطفل من هم في مثل عمره قائلا: «في بحر سنوات قليلة سوف أكون مراهقا يحاول أصدقاؤه أن يقنعوه بشرب الخمر وتعاطي المخدرات. ولكن الأفضل أن أقول لهم: لا. في بحر سنوات قد ألتقي بصديق في غرفة دردشة وأظنه لطيفا للغاية ولكنه يطلب مني أن أفعل أشياء لا أستسيغها ويعرض علي صورا قبيحة. وعلي أن أقول له: لا».

رق قلبي لأطفال هذا الزمان. وتذكرت سحابة خوف قاتمة لازمتني في الطفولة بعد أن سمعت أن الفتاة التي يلتقيها غريب ويدعي أن أباها في انتظارها في شارع قريب فترافقه تلقى على يديه ما لا تحمد عقباه. عشش الخوف في قلبي بحيث كنت أقطع الطريق إلى بيتنا عدوا خوفا من أن ألتقي ذلك المجهول المخيف.

كل جيل يتعلم أن يتجاوز الخطر. ولكني أعتبر أنني من جيل رافقه الحظ السعيد. فقد حملت بي أمي حملا طبيعيا وظلت إلى آخر أيام الحمل تعمل على خدمة البيت بهمة لا تعرف الكلل. ولم تفكر قط في الولادة القيصرية اختصارا لوقت الطبيب وتوفيرا لعناء المخاض. وحين ولدتني سبق ولادتي عصر ظهور «البامبرز» وما شابهها. فنجوت من الالتهابات والحساسية التي تصيب بعض الرضع جراء احتكاك البشرة بالألياف الصناعية.

وفي طفولتي كنا نشرب الماء من الصنبور لا من زجاجات نشتريها من السوبر ماركت. وفي أيام الصيف الحارة كان العم علي بائع الثلج يأتينا يوميا بلوح الثلج فنكسر منه قطعا نسقطها في أكواب ماء الشرب، ولم نسمع أبدا بأن أحدهم مات من شرب الماء. وكم أكلنا الخبز الـ«الفينو» الأبيض والزبد الفلاحي والمربى البيتي قبل أن يصبح الخبز الأسمر موضة. وفي الساحة المواجهة للبيت لعبنا ألعاب الأطفال من «الاسْتُغُمَّاية» إلى «العسكر والحرامية» و«النبلة» و«القوس». ولم يرتد شقيقي الأصغر خوذة ليركب دراجته. وكم جمعنا متفرقات استغنى عنها الكبار وصنعنا منها ألعابا وإذا صادفتنا عقبة فكرنا في الوصول إلى حل. لم يكن لأحدنا أصدقاء وهميين على الإنترنت ولم تكن أمراض النشاط المفرط، وقلة التركيز مشكلات تواجهها مدارس الأطفال. وكانت المشرفة الاجتماعية أو «الضابطة»، كما سميت في ذلك الوقت، شخصية لحفظ النظام وفك الاشتباكات إن وردت. ولكني لا أظن أن المدارس وظفت اختصاصيين نفسيين لعلاج أي طفل معقد. وكان الباعة الذين يتجمعون بالقرب من المدارس يبيعون الخس والدوم والحَرَنْكَش لا المخدرات والعياذ بالله.

في البيت لم نعرف «البلاي ستيشن» ولا الفيديو ولا الهاتف الجوال. كان التلفزيون سيد الموقف ولم تزد قنواته على قناتين. وإن عز الترفيه التلفزيوني خرجت الكتب والمجلات من مخابئها كبديل.

لم نكن ملائكة ولم نكن شياطين. وإذا غلب أحدنا ميله إلى الشقاوة والمشاكسة تسلل إلى بيت الجيران وضغط على زر الجرس ثم أطلق ساقيه للريح لكي يختبئ وينجو من العقاب. وحين اكتشف الجار الحقيقة لم يرغ ولم يزبد ولم يتصل بالشرطة بل اكتفى بقرصة أذن فعلية أو كلامية لا تخلو من دعابة.

أبناء جيلي لم يتعرضوا لويلات الطلاق ولم نجرب توزيع الوقت بين بيت ماما وبيت بابا في أيام العطلات.

وهو جيل أفرز نسبة كبيرة من المثقفين والعلماء والمخترعين.