«سنوات القصدير»

TT

بعث قارئ إلى «النهار» برسالة يشكو فيها بطء القضاء اللبناني في بحث القضايا، ويقترح أن تقدم الشكاوى إلى المحاكم باسم الأب وابنه معا، بحيث إذا لم يصدر في حياة الأب، هناك احتمال بأن يصدر في حياة الابن. يذكرني التآكل والصدأ الذي يضرب المؤسسات الحكومية في لبنان، بالاهتراء الذي أفسد مرافق الدولة في إيطاليا. فمدينة روما، التي كان العالم يسير على إيقاعها طوال قرون، كان أكثر ما يلفت النظر فيها أن جميع الساعات الكبيرة المعلقة في الشوارع والساحات، متوقفة، حيث تعبت عقاربها. ولم يكن هذا المشهد يقلق أو يعني أحدا، في عاصمة أوروبية تاريخية. لماذا؟ لأن لا قيمة للوقت عند الإيطاليين. فهو مثل الساعات المعلقة، لا يقدم ولا يؤخر في أي حال.

يرأس ماريو كالابريزي تحرير «لاستامبا»، إحدى أهم وأعرق صحف إيطاليا. وقد قتل والده، لويجي، عندما كان في الثانية من العمر، عام 1972. كان الأب مفتشا في الشرطة، وقد اتهمه «الفاشيون الجدد» بأنه كان وراء انتحار المتهم جيوسبي بينيللي الذي رمى بنفسه من نافذة المكتب أثناء التحقيق معه. يروي ماريو كالابريزي أن أول شيء يذكره في حياته، عويل أمه، الحامل بشقيقه الأصغر، يوم جاء زميل لأبيه يبلغها «بالحادث». لكن الدولة الإيطالية لم تقبض على القتلة إلا بعد 16 عاما ولم يصدر الحكم عليهم إلا بعد محاكمة استمرت 10 سنوات. وفقط عام 2004 قدم الرئيس الإيطالي كارلو كيامبي ميدالية الشجاعة إلى أرملة المفتش القتيل، مكتفيا بالقول: «لقد أعدنا اكتشاف الذاكرة». كانت تلك مرحلة سميت في إيطاليا «سنوات القصدير»، دبت خلالها الفوضى وعمت الجرائم السياسية وصارت العدالة في أيدي المنظمات الإجرامية، «كالألوية الحمراء». وقد اعتقل كثيرون من المرتكبين وأمضوا سنوات في السجن ثم خرجوا ليتبوأوا الوظائف والمناصب، وبعضها حكومي. وتقول مارييلا ديزنيزي، التي قتلت «الألوية» زوجها، المفتش هو أيضا، إن «الأحكام بالمؤبد صدرت علينا لا على القتلى».

وذكرت أن سيرجيو ديليا، الذي كان بين الذين أدينوا في مقتل زوجها، عين عام 2006 سكرتيرا لرئيس مجلس النواب. في كتابه «أبعد ما بعد الليل» يصور كالابريزي بلدا عاجزا وسقيما في مواجهة «سنوات القصدير». فالرجل الذي رمى بنفسه من نافذة مكتب والده، كان متهما في أي حال، بتفجير ساحة فونتانا، في مدينة ميلانو، الذي قتل فيه 16 شخصا وسقط 80 جريحا. ومع ذلك سعى الكثيرون إلى المساواة بين القاتل وبين ضحاياه.

لا يريد كالابريزي الانتقام، بل الوئام. يريد لإيطاليا أن تنسى جراح تلك المرحلة التي تركت الكثير من الجراح والمذلات، وبقيت فيها العدالة على الهامش. وهو يدين بذلك إلى امرأة استثنائية، هي أمه، المرأة التي علمته أن الحب أعظم من الانتقام. والأمل أجمل من اليأس، والعفو أنبل من الغضب والحقد. لقد أنشأت أولادها على التسامح. وعندما حكم على قاتل زوجها، أوفيديو بومبريسي، قالت لأبنائها، يجب أن نفكر في ابنته. لقد فقدت أبا.