الشرق الأوسط: انبعاث الأسئلة القديمة

TT

أحد أهم عناصر التأزم والصراع في الشرق الأوسط هو الفجوة بين واقع الدولة الوطنية الحديثة والمثال الذي تسعى إليه الآيديولوجيات الحاكمة أو المعارضة، والذي غالبا ما يرتكز على إنكار هذا الواقع. في أوروبا وبعد قرون طويلة من ترسخ الدولة القومية وحدودها وتشكل الهوية الوطنية كهوية عليا للمجتمع، أصبحت الآيديولوجيات السياسية الرئيسية تركز صراعها على الحيز القومي في إطار اعتراف وتسليم نهائي بحدود وهوية الأمة، وبالتالي يركز خطابها على جذب الناس لما يعتقد كل حزب أنه فيه خير أكبر لهذه الأمة، والأمة التي غالبا ما بدأت كمفهوم لمجتمع متخيل أصبحت كيانا سياسيا ودستوريا وقانونيا حقيقيا بمرور الزمن. أما عندنا فيصعب في كثير من الأحوال أن تفصل بين حدود الواقع وحدود الخيال، فالخطاب السياسي عندنا يعتاش على ضبابية الهوية وسيولة الحدود، وتختلط فيه المعايير بشكل يعزز مزيدا من الارتباك في ذهن الفرد العادي بما يخدم مصالح نخب سياسية لم تعتد الالتزام بوعود واقعية أو برؤى قابلة للتحقيق. في منطقتنا العظماء هم من لا يتحدثون عن الواقع، بل عن الخيال، هم الذين يبزون بعضهم في رسم صورة عن مستقبل خارق يداعب أحلام شعوب مقهورة ومكبوتة لم تعد ترى في حديث الواقع أملا أو خلاصا.

في طهران قيل إن بعض المتظاهرين رفعوا شعار «جمهورية إيرانية لا إسلامية»، في حين ما زال النظام السياسي يصر على أن إيران وقبل كل شيء هي «جمهورية إسلامية»، وهذا التفاوت ليس مجرد تفاوت لفظي بسيط، بل إنه يعبر بقوة عن الأزمة الحقيقية التي تعيشها المنطقة بجلها لأنها لم تتجاوز هذه الفجوة بين وجود الدولة الحديثة كأمر واقع قائم وبين هيمنة آيديولوجيات عابرة بل ومنكرة لحدود تلك الدولة ومتطلعة إلى فضاء أوسع، ومع تطلعها هذا يتم إنتاج معايير أخرى لماهية الأمة ومعنى النضال الوطني، بل أزعم أن الفصل المتعمد بين الوطني والقومي في خطابنا السياسي يخفي وراءه إصرارا مقصودا على هذه الازدواجية التي بفضلها تصبح المعارك الخارجية والقضايا غير المحلية ذات أولوية على سواها. أشياء مشابهة نراها في كل دول المنطقة، ففي العراق يجري الحديث عن عروبة أو إسلامية العراق، ونادرا ما نتحدث عن عراقيته، وفي سورية هناك القوميون العرب والقوميون السوريون والإسلاميون، وفي مصر هناك من يتحدث عن عروبة مصر أو إسلاميتها أو فرعونيتها، ولأن القرن العشرين شهد تباعا هيمنة فكرية وسياسية للآيديولوجيتين العروبية والإسلامية، فإن النموذج المثالي الذي تم تطويره للولاءات هو ذلك الذي لا يحفل كثيرا بالولاء للدولة الوطنية القائمة فعليا، والذي يقدم عليه الولاء لكيانات متخيلة تماما، فأصبحت الوطنية أن ترطن بشعارات تحرير فلسطين ووحدة الأمة العربية أو الإسلامية، وفي غضون ذلك يمكنك أن تهمل وطنك الحقيقي القائم فعليا ما دام من يمنحون صكوك التمجيد هم رواد تلك الآيديولوجيات ومؤسساتها الفكرية والإعلامية.

بفضل هذه الازدواجية بين دولة قائمة بحكم الأمر الواقع ولها جيشها ونظمها القانونية والإدارية وآيديولوجيات سياسية مفارقة للواقع تظل المنطقة تعيد إنتاج أزمتها عبر ممارسات من قبيل تمويل ورعاية أحزاب وميليشيات في دول أخرى، والحديث عن وحدات وهمية، وغياب معايير واضحة للشرعية، وتدخل سياسي وإعلامي، وتوافد «المجاهدين» من دولهم إلى دول أخرى للقتال من دون استئذان الشعب الذي يقاتلون على أرضه، وخطاب التخوين أو التطبيل من خارج الحدود. المفارقة الكبرى عندما تنكر الدولة نفسها «واقعيتها» وتتسلح بآيديولوجيا معينة تستند إلى هذا الإنكار، هنا تغدو الازدواجية متأصلة وخطيرة، فأنت تمتلك الهيمنة على الدولة وأجهزتها ومصيرها، لكنك تتبنى رؤية تشكك في حدود ومعنى وجود هذه الدولة بادعاء أنها ليست كلا قائما بذاته، بل جزءا من فضاء سياسي أكبر هو الذي يحظى بالأولوية، المشكلة عندما يكون هذا الفضاء خيالا مطلقا لا سند واقعيا له لأنه، يسمح للأنظمة السياسية بمواصلة اللعب والتستر خلف شعارات الكفاح من أجل تحقيق المثال الأعلى وبالتالي التملص من التزام خدمة الكيان الحقيقي الوحيد القائم وهو الدولة التي تحكمها. بهذه الطريقة يتم تسريب الثروات نحو جماعات أجنبية «بالمعنى القانوني لا الآيديولوجي»، والخوض في صراعات أجنبية، والحديث عن منجزات على أرض أجنبية في الوقت الذي يتم إهمال الداخل بحجة أولويات النضال، فلا يغدو الحديث عن قضايا مثل الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي أو السعي للاستقرار الدستوري والبناء المؤسساتي الذي يضع معاني واضحة للشرعية سوى تعطيل عن المعارك الكبرى، تلك التي لا نهاية لها أبدا.

مثل هذا الوضع يخلط أضدادا من قبيل معارضة يستند خطابها إلى فضاء وهمي آخر، وإلى كيان سياسي ضدي يتغذى من هوية عابرة للحدود أو هوية فرعية ضيقة، فتجربة الأنظمة الآيديولوجية الشمولية في منطقتنا نجحت في شيء واحد هو تفتيت الهويات الوطنية أو منع تطورها، وبالتالي جعل الوطن بأكمله في موضع المساءلة، والعودة بنا إلى أسئلة ما قبل الدولة: ما معنى الوطن وما معنى الأمة وما هي حدودهما؟ إن أزمتنا ما زالت قائمة لأننا لم نطور بعد جوابا واقعيا لهذه الأسئلة، وأحسب أننا لن نفعل في الزمن القريب.