العرب.. وأصول الاعتذار السياسي

TT

إذا مرضنا أتيناكم نزوركمُ

وتذنبون فنأتيكم فنعتذرُ

(المؤمل بن أميل المحاربي)

استذكر لبنان واللبنانيون، أمس الأحد، اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفاقه. وجاء هذا الاحتفال وسط محاولات حثيثة تُبذل على الصعيدين الداخلي والخارجي لتخفيف التوتر الذي أحدثته الجريمة وتداعياتها.

بديهي أن جريمة اغتيال مسؤول سياسي رفيع، يمثل خطا فاعلا في بلد ما، لا بد أن تكون دوافعها سياسية، وكذلك تبعاتها وتداعياتها. واستطرادا، يصبح من المفهوم أن معالجة وقع الجريمة وما خلفته من انقسام خطير على المستوى الشعبي في لبنان وتنافر غير مسبوق في المزاجين الشعبيين اللبناني والسوري.. تحتاج إلى خلاصات وترتيبات سياسية محلية وإقليمية.

في جنوب أفريقيا، عند نهاية حقبة الفصل العنصري التي مزقت الشعب لعقود طويلة على أساسي اللون والعرق، أمكن طي الصفحة ودفن الأحقاد بوجود ثلاثة عناصر:

1- قيادة بيضاء عاقلة ومسؤولة أدركت عبثية الهروب إلى الأمام، وتناقص عوامل الرهان على التواطؤ الخارجي، مع تغير مواقف آخر الدول الغربية الراضية ضمنيا بمواصلة دعم الحكم العنصري.

2- قيادة سوداء تاريخية مُلهَمة، تتسلح، في آن معا، بالصلابة المبدئية والتسامح الأخلاقي، رأت أن اتجاه حركة التاريخ لصالحها. وبالتالي، غدا من مصلحتها تقبل انتصارها بهدوء وبروح من الشراكة.. من دون تبجح أو تشفٍّ أو إصرار على الثأر.

3- قيادات في المؤسسات الدينية وهيئات المجتمع المدني، من رموزها الأسقف ديزموند توتو كبير أساقفة كيب تاون الأنجليكاني، توجهت لرعاية جلسات مصارحة ومكاشفة واعترافات، انتهت باعتذارات متبادلة حقيقية تجاوزت غسل القلوب من أدران الحقد إلى التأسيس لعلاقات من الثقة والرغبة الوطيدة في التعايش ضمن الوطن الواحد.

تجربة توتو - حامل جائزة نوبل للسلام عام 1984 - ورفاقه، التي تجسدت بـ«مفوضية الحقيقة والمصالحة» اتخذت شكلا يشبه المحاكم، وشملت آلياتها استدعاء شهود، والاستماع إلى إفادات واعترافات، والحصول على اعتذارات. ولكن الغاية منها كانت ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان للبناء للمستقبل، من دون إجراءات عقابية على تجاوزات الماضي، كحال محكمة النازيين في نورنبورغ.

حصيلة «مفوضية الحقيقة والمصالحة» جاءت إيجابية جدا حتى الآن. ومنها انطلقت جنوب أفريقيا على طريق الديمقراطية وتداول السلطة. وكان من أبرز ما حصل خلال الفترة القصيرة الماضية خسارة الرئيس تابو مبيكي، الذي خلف الزعيم التاريخي نيلسون مانديلا، منصبه القيادي في الحزب الحاكم. ومن ثم، في رئاسة البلاد أمام منافسه جاكوب زوما.. عبر صندوق الاقتراع.

الوضع في لبنان بعد خمس سنوات من اغتيال الحريري ورفاقه، وما أفرزته من جرائم اغتيال «ارتدادية» استهدفت عدة شخصيات من الخط السياسي نفسه، مختلف جدا عما شهدته جنوب أفريقيا.

فالتدخل الخارجي النشط في الشأن الداخلي اللبناني لم ينكفئ على الإطلاق، بل نراه استوعب الصدمة الأولى ليعود أكثر إصرارا على الانتقام وإعادة فرض ظروف سياسية وأمنية تناسبه بقوة السلاح. ولا ضمانات أكيدة في أن العدالة المنتظر أن تخرج بها المحكمة الدولية، التي شكلت للنظر بجريمة اغتيال الحريري والاغتيالات التي تلتها، ستكون أقوى وأثمن من التفاهمات السياسيات الدولية التي بدأت ترتسم في منطقة الشرق الأوسط أمام خلفية المحاولات «المعلنة» لفصل دمشق عن طهران.

ثم لقد تكلم كثيرون، في لبنان وخارجه، عن «أخطاء» ارتكبت، وطالب كثيرون بـ«اعتذارات»، لكن لا أحد أعلن أين أخطأ. ومن ثم، لا أحد وجد مبررا للاعتذار.. اللهم إلا بعض الضحايا المغلوب على أمرهم الذين أمِروا بالاعتذار تحت طائلة الانتقام.

في الحقيقة، «الاعتذار» ليس غريبا عن تراثنا العربي. والشعر العربي، بالذات، مليء بالاعتذاريات منذ عصر الجاهلية، عندما اعتذر النابغة الذبياني من النعمان بن المنذر اللخمي، وقال فيه:

وإنك كالليل الذي هو مُدركي

وإن خِلت أن المنتأى عنك واسعُ

والأهم من «اعتذاريات» النابغة، رائعة كعب بن زهير الشهيرة «بانت سعاد» في الاعتذار من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وفيها يقول:

أنبئت أن رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

إن الرسول لنورٌ يُستضاء به

مهنّدٌ من سيوف الله مسلول

منذ ذلك الحين سجل التاريخ العربي الكثير من الاعتذارات. ولكن، باستثناء البعد الإيماني في حالة كعب بن زهير، كانت الاعتذارات الأخرى ذات طابع شخصي. ولعلها لا تزال كذلك حتى اليوم، وإن كان البعض يحاول أن يخلط بين انتقاد ممارسات سلطة ما و«الإساءة إلى الأمة وضرب معنوياتها وخضد شوكتها أمام خطر العدو الصهيوني الغاصب»!

صحيح قيل كلام جارح، وظهرت مواقف متعنتة في لبنان، وأيضا في سورية وفي أماكن أخرى من المنطقة، بعد جريمة 14 فبراير (شباط) 2005. وورد ضمن التهجمات والاتهامات المتبادلة تحريض مكشوف وتخوين صارخ. غير أن العالم العربي، لفرط تخلف مؤسساته الحزبية والسياسية، وانعدام الديمقراطية فيه، ما عاد يميّز بين انتقاد حكومة أخطأت هنا أو هناك - وهذا أمر طبيعي - ومعاداة شعب بأسره. بل غدا بعض الحكام يستمرئون عادة إثارة شعوبهم غريزيا بحجة أن هناك افتئاتا متعمدا على الشعب كله كلما تعرضوا هم، أو حكوماتهم، لنقد أو اتهام.

وحتى عندما كان المنتقد يحرص على التمييز علانية بين انتقاده السلطة وتنزيهه الشعب والوطن ككل عن ممارساتها، وجدنا الأبواق الإعلامية الرسمية - وشبه الرسمية - تنبري لمهاجمة مَن تنعتهم بـ«مثيري الفتنة» والساعين إلى زرع إسفين بين القيادة والشعب.

هذا المسلك لا يحصل في الدول المتقدمة، حيث تقوم ممارسة السياسة على علاقتي الاحترام المتبادل والثقة المتبادلة بين الحاكم والمحكوم. وهكذا تتفعّل آلية تداول السلطة، وتنشط الحياة الحزبية الديمقراطية.

ما يحدث عندنا، في غياب الاعتراف بالخطأ والتعفف عن الاعتذار، هو أشبه بحال الأنظمة الشمولية في حقبة الحرب الباردة. ولعل الكيفية المأساوية التي انهار بها الاتحاد السوفياتي بسبب ترهل مؤسساته وشللها، رغم ترسانته النووية الجبارة، تقدم درسا ثمينا للبعض في عالمنا العربي.

نحن اليوم، كدول عربية، لا يتخلف عنا في معايير التنمية والحكم الرشيد - وفق إحصائيات الأمم المتحدة - في العالم كله إلا دول منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا.

فحبذا لو نتعلم الاعتراف بالأخطاء. وإذا كان بعض قادتنا شغوفين بالاعتذارات، ومتعاطفين مع مشاعر شعوبهم، فلمَ لا يبادرون هم إلى الاعتذار منها على تقصيرهم في تنميتها اقتصاديا، وتنويرها سياسيا، وتطويرها ثقافيا، وتحصينها عسكريا؟