عصابات «عراقية» تحت الوصاية الدولية؟

TT

عندما كان الجنرال بترايوس قائدا لقوات التحالف في العراق كثيرا ما طلب من هيئة ركنه إشعار هذا المسؤول أو ذاك من العراقيين بأن تصريحاتهم لا تخدم العملية السياسية وتوجهات المصالحة. فما الذي دفع القادة الأميركيين الحاليين إلى التزام الصمت تجاه التصريحات الغوغائية التي يطلقها مسؤولون رفيعو المستوى ممن لم يكونوا معروفين؟

التذرع بنقل السيادة لا يقنع عاقلا، فالعراق لا يزال تحت الوصاية الدولية، والأهم من ذلك أن على الأميركيين التزاما أخلاقيا لا يجيز توفير حماية لفريق جُبل على الانتقام. وليس من الإنصاف ولا من مصلحة أميركا تسخير قدراتها لفرض معادلات انحيازية تؤسس لظلم وصراعات بعيدة الأمد يرفضها العراقيون.

على خلفية حرمان سياسيين من حق الترشيح للانتخابات، حذر رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي من انزلاق البلاد إلى حرب أهلية، وقد فسر فريق الحكم التصريح كدليل على صلة هؤلاء بالعنف. وهو تفسير ضيق وخاطئ، فجماعات العنف غالبا ما تستغل الممارسات البعيدة عن روح الوفاق والتصالح لتنفيذ برامجها، وقد تكون من نفس الجهة التي تسعى إلى لصق الاتهامات بشرائح معينة، وفق مخطط يستهدف تغيير هوية العراق أو تفكيكه.

وخلال حملة هستيرية لتحقيق معطيات قهرية للفوز في الانتخابات طالب، أو توعد، مسؤولون محليون كبار باتخاذ إجراءات لطرد البعثيين من دوائر الدولة، ما أثار موجة قلق لدى الناس من تطبيق تعسفي لإجراءات غير قانونية بسلطة الدولة. وعلى الرغم من صدور تصريحات تعديل أو رفض غير مقنعة «لبعض» التصريحات فلم تضطلع الحكومة بدورها القانوني والإداري لوقف هذه الهستيريا. ولا يمكن إرجاع غياب رد الفعل الحازم إلى ضعف رئيس الحكومة، وهو الذي اعتاد على إطلاق تصريحات نارية ينذر بها خصومه «بمستقبل مظلم»، بقدر ما تعكس «التصريحات» من هنا وهناك تبادل أدوار منظما، لا سيما أن معظمهم من التابعين لفريق المالكي أو من المحسوبين على جناحه الدعوي.

وعلى طريقة البلطجة «الباسدارانية» والتهديدات الفارغة بغلق مضيق هرمز في حال ضرب المواقع النووية المثيرة لقلق العالم، يخرج مسؤول محلي من البصرة مهددا بإعلان إقليم البصرة وقف تصدير النفط في حال إشراك من وصفهم بالبعثيين في الانتخابات. وكأن مصير العراق أصبح تحت رحمة هذا أو ذاك من المتحكمين في مصدر عيش العراقيين. وكل هذا يحدث ولم يصدر من الحكومة المركزية رد فعل يستحق الذكر. وما قاله نجاد في خطبة يوم الثورة التي «خطفوها» عن منع ما سماه عودة البعثيين يعطي رسالة واضحة تحكي قصة الدور الإيراني المطلق اليدين، ويدل على أن ما يحدث في العراق من معضلات أمنية وسياسية يرتبط بمخطط إيراني لم يعد يعير أهمية لأحد.

ومن يعرف العراقيين عموما والبعثيين تحديدا يدرك أن مثل هذه الغوغائية الاستفزازية ستقود البعثيين إلى لملمة أوضاعهم وإعادة هيكلية تنظيماتهم الموجودة أصلا، وبذلك ينتقل العراق إلى صراع سري يجيد البعثيون فنونه أكثر من غيرهم. فلماذا هذا الاستفزاز المبني على الأحقاد والضغائن؟

كنت وسأبقى مؤمنا بجدوى الممارسات الديمقراطية النشطة للحصول على الحقوق الإنسانية والسياسية، وإذا ما جابه الحاكم الممارسات بوسائل قمعية مسلحة وبطش فإنه يضع نفسه تحت حكم القانون المحلي والدولي اليوم أو غدا، ويكون هو السبب الرئيسي في حالة انزلاق الأمن وانتشار العنف.

بعض الأشياء قابلة للفهم، إلا أن الإصرار على سياسة الإقصاء والتجاوز على أرزاق الناس وأمنهم ومستقبلهم وحقوق مواطنتهم لا يمكن فهمه إلا من زاوية عدم إدراك الحقائق على الأرض. فالعراق لا يستقيم حكمه بواجهات لولاية الفقيه، ولا من قبل حزب طائفي من أي لون كان، ولا بسياسة فرض الأمر الواقع. وليس من مصلحة العراق وأمنه العمل على إبعاد سياسيين نشطين، بصرف النظر عن الأسماء، للإتيان بأشخاص ضعفاء يساقون إلى حيث يراد سوقهم، فالضعفاء لا يتّبعهم غير أحلامهم الشخصية. وما يجري في العراق ليس إلا عملية انقلابية كسابقتها الإيرانية، والمستهدف بهما هو كل من يخالف مشروع المرشد.

أما الأميركيون، فإذا كانت هذه هي الديمقراطية التي يريدون فرضها على الآخرين فإن العالم سيفقد ما بقي من ثقة في توجهاتهم. ولن يحقق الرئيس أوباما ببلاغته وخطبه وإلمامه بالقانون وحقوق الإنسان شيئا يساعد بلاده في تحقيق وضع أفضل دوليا، ولن يتمكن من طمأنة الدول العربية الصديقة لأميركا حول مستقبل العراق. وإذا كان الملل قد أصابهم فليتركوا العراق لأهله ولحكم الأقدار أفضل من هيكل يبنى على الظلم.

الكثير من الممارسات والتصريحات الرسمية وغير الرسمية من قبل كتل حاكمة أصبحت أقرب ما تكون إلى أفعال العصابات، فهل يجوز القول بأنها عصابات تحت الوصاية الدولية؟