مانديلا والعراق

TT

مفارقة لافتة أنه عندما كانت جنوب أفريقيا وكثيرون حول العالم يحيون نهاية الأسبوع الماضي الذكرى العشرين لخروج مانديلا من السجن، كان العراق غارقا في الجدل حول استبعاد مرشحين من القوائم الانتخابية وحول مفهوم اجتثاث البعثيين. وكم كان الفارق كبيرا والمقارنة محزنة. فهنا حالة رجل غادر سجن واحد من أسوأ النظم التي عرفتها البشرية، وهو نظام العنصرية البيضاء، بعد ما قضى فيه ما يزيد على ربع قرن، وخرج منه وهو قادر على الانتقام لنفسه ولشعبه لو أراد، لكنه اختار طريق العفو ومنهج التسامح بغية علاج جروح الماضي ومن أجل بناء الوطن والمواطن. وهكذا أصبح مانديلا رمزا سياسيا وإنسانيا، وباتت سيرته مثالا يتمنى الناس رؤيته في كل مكان، وبفضله اجتازت جنوب أفريقيا منعطفا مهما تفادت فيه إمكانية الحرب الأهلية والتصفيات والثارات، ونجحت بذلك في تأسيس نظام مستقر يقوم على التسامح والتعايش بين مختلف الأجناس والأعراق والألوان والأديان.

من الناحية الأخرى، هنا حالة العراق، الذي لم يجد قياديا يشبه مانديلا، فغرق في بحور الطائفية والعنصرية والتصفيات تحت مختلف العناوين واللافتات. وعلى الرغم من مرور سبع سنوات على الغزو فلم يستطع العراق الخروج من دوامة العنف، ولم ينجح غالبية ساسته في التغلب على نزعة الثأر والانتقام والميل للاستئصال والاجتثاث. وبسبب ذلك لم يعرف العراقيون طعم الاستقرار، بل وبات من يسمع تعليقاتهم يشعر بفقدانهم للثقة في أوضاعهم وفي غالبية سياسييهم. فحتى الانتخابات، التي تمثل فرصة ذهبية للخروج من عنق الزجاجة في مسألة الاستئصال، باعتبار أن الجميع يحتكم إلى الشعب الذي يستطيع عبر صندوق الانتخاب عزل من يشاء وانتخاب من يريد، أصبحت مثار جدل وتجاذبات، مما يكاد يفرغ العملية برمتها من محتواها، خصوصا مع التصريحات الصادرة من كثير من القوى السياسية التي تشكك وترتاب في ترتيبات الانتخابات وإجراءاتها.

فعلى مدى شهور ظل الجدل الانتخابي يتركز على مسألة اجتثاث البعث ومنع أعداد من المرشحين من خوض الانتخابات تحت طائلة الانتماء للبعث العراقي، حتى كادت قضايا الأمن والمعيشة والتعليم والصحة وغيرها من هموم المواطن العراقي تأخذ مكانا متأخرا جدا في سلم الأولويات. وبات الموضوع الطاغي والشغل الشاغل هو تصريحات المبعدين من الانتخابات وتبريرات المسؤولين عن الإبعاد والاتهامات المتبادلة بين مختلف القوى السياسية، حتى سمعنا تلويحا باللجوء إلى مجلس الأمن، وكلاما عن تدخل خارجي ونفوذ إيراني على العملية الانتخابية، واتهاما من أحمد الجلبي رئيس هيئة المساءلة والعدالة، لأميركا بممارسة ضغوط لإشراك البعثيين في الانتخابات. بل إن الجلبي أضاف في تصريحاته التي أدلى بها قبل أيام أنه «لا ولاية لأي طرف أجنبي على سيادة العراق»، مما يجعل المرء يتساءل: «هل نسي الجلبي دوره في غزو العراق؟».

وفي هذه المعركة المحتدمة حول اجتثاث البعث يستشهد البعض بالمادة السابعة من الدستور العراقي التي تنص على «حظر كل كيان أو نهج يتبنى العنصرية أو الإرهاب أو التكفير أو التطهير الطائفي أو يحرض أو يمهد أو يمجد أو يروج أو يبرر لها، خصوصا البعث الصدامي في العراق ورموزه». وعلى الرغم من أن هذه المادة تذكر البعث الصدامي بالاسم فإنها ليست مقصورة على البعثيين، وهنا بيت القصيد، لأن هذه المادة لو طبقت بحذافيرها وبموضوعية، فإنها قد تشمل كثيرا من السياسيين، وربما بعض الكيانات التي تستخدم الورقة الطائفية بشكل أو بآخر.

إن خلاصة هذا الكلام ليس الدفاع عن البعث أو البعثيين في العراق، إذ ارتبط النظام السابق بكثير من الجرائم والشرور، لكن الغرض هو القول إن العراق بحاجة اليوم إلى فتح صفحة المصالحات ونشر روح التسامح وطي كتاب التصفيات والثارات، حرصا على وحدة البلد من الحسابات السياسية الضيقة ومن الطائفية التي تنخر فيه وتهدد نسيجه وتفتح أبوابه للتدخلات الأجنبية. لقد حوكم وأعدم عدد من الرموز والرؤوس الكبيرة للنظام البعثي السابق، وهناك فرصة لمحاكمات مستقبلية لكل من يدان بجرائم ضد شعبه، وفيما عدا ذلك فإن العراق أحوج ما يكون اليوم إلى التعلم من درس رجل اسمه نيلسون مانديلا.

[email protected]