قانون البحث عن استئناف عملية السلام؟!

TT

أصيب الرئيس الأميركي باراك أوباما بخيبة الأمل في إمكانية التقدم نحو السلام في الشرق الأوسط؛ ولم تكن خيبة الأمل راجعة فقط إلى أن الطريق إلى التسوية لم يتقدم خطوة واحدة، وإنما أيضا لأن إدارته فشلت في تقدير الموقف تقديرا صحيحا. وهكذا، ومبكرا جدا انضم المتفائل بشدة منذ عام إلى طابور طويل من المحبطين الذين دخلوا إلى الدائرة الجهنمية لصراع الشرق الأوسط. وهي دائرة تبدأ دائما بالأمل وتنتهي بالاعتقاد أنه لا فائدة؛ وعندما يسود التفكير أن الحكمة تقول بالإهمال والبعد عن «القضية» فإن النتيجة تكون انفجارا يجبر الجميع على العودة إلى دائرة البحث. والقانون دوار بقوة ولا يحتاج إلى إثبات كبير، فقد يئس رونالد ريغان بعد مأساة حرب لبنان وتوابعها وانفضت السيرة بحثا عن وفد فلسطيني - أردني يفاوض الإسرائيليين، ولكن حرب تحرير الكويت جعلت جورج بوش الأب ينشط في مدريد، وعندما تولدت عنها أوسلو ظن كلينتون أنه يمكنه أن يأخذها إلى نتائجها المنطقية في كامب دافيد ولكن الانكسار جرى وحدثت الانتفاضة المسلحة، وساعتها أصر جورج بوش الابن على أنه لا حاجة لسلام في الشرق الأوسط، فكانت حربٌ في لبنان، فحاول مرة أخرى في نهاية أيامه، وجعلت حرب غزة المسألة حتمية بالنسبة للرئيس الجديد، ولكن كما حدث كل مرة، عادت الأحوال إلى ما كانت عليه من جمود واستحالة.

وعلى مدى التاريخ الطويل لمحاولات تسوية الصراع العربي – الإسرائيلي وخاصة في شقه الفلسطيني - الإسرائيلي فقد كان هناك دائما حل للتعامل مع عامل الزمن بشغله بمفاوضات من نوع ما، تلافيا لمنتجات القانون الذي يقول للسياسي في المنطقة وخارجها: إذا لم تلحق بالشرق الأوسط بعملية تسوية فسوف يلحق الشرق الأوسط بك بعملية حرب أو أزمة من نوع أو آخر. ومن تعلم القانون جيدا أصبح عليه في لحظات الركود البحث عمن يملأ الفراغ بحيث يظل المسرح مشغولا طوال الوقت؛ والحقيقة أنه لم يكن هناك نقص أبدا في اللاعبين، ولا في الأفكار، ولا في المفاهيم المبتكرة. ومن عاش الصراع الطويل عرف مباحثات القوى العظمى والكبرى الثنائية (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أيام كان هناك هذه الدولة) والرباعية بعد انضمام فرنسا وبريطانيا؛ وكان ذلك قبل عقود من تكوين الرباعية الجديدة التي تضم الولايات المتحدة وروسيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومن وقت لآخر فإن هناك قوى فرعية تلعب دورا أو آخر خلال هذا المشهد أو ذاك، وهناك دائما مبعوثون «دائمون» من عدة دول تتوالى زياراتهم للمنطقة يوما بعد يوم.

بعض من هذا يجري هذه الأيام من خلال السعي الدءوب الذي تقوم به الإدارة الأميركية من أجل بدء «مفاوضات قريبة أو «Proximity Talks» وهو تعبير ومفهوم جديد للمفاوضات، حيث عرفنا في السابق المفاوضات المباشرة حيث جلس الفلسطينيون والإسرائيليون وجها لوجه، والأخرى غير الرسمية التي يتنقل فيها وسيط بين غرف الوفود وحدث ذلك في رودس عام 1949 كما جرى في مدريد ومن بعدها في واشنطن قبل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية. والفكرة هذه المرة أن يتنقل المبعوث الأميركي جورج ميتشل بين أطراف الصراع بحثا ليس عن حل وإنما عن طريق لاستئناف المفاوضات. لاحظ هنا كيف ينطبق القانون، فما سوف يجري هو مفاوضات حول المفاوضات، وهو من ناحية يلتف حول الموضوع الذي توقفت عنده إمكانية المفاوضات غير المباشرة وهو التوسع الاستيطاني الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى يعطي الفرصة للجانب الفلسطيني والعربي للتأكيد على أن المفاوضات لن تبدأ دون تحديد «المرجعية» التي تقوم عليها، وهي مرجعية قانونية تعود بالجميع إلى أصول القضية كلها وقراراتها الدولية والإقليمية وتفسيراتها المختلفة. وبهذه الطريقة يكون المسرح قد امتلأ حتى آخره بالممثلين واللاعبين والمراقبين والرافضين.

وفي يوم من الأيام في نهاية التسعينات قال لي ميغيل موراتينوس وزير خارجية إسبانيا الحالي، وكان أيامها مبعوثا للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط، إن أوروبا وبقية الدول الكبرى لا يمكنها أن تسمح للصراع العربي - الإسرائيلي أن يستمر معنا خلال الألفية الثالثة. ولكن دستة من السنوات مرت على هذا الحديث، واستعرت فيها انتفاضة مسلحة وحربان، ومعهما أشكال كثيرة من العنف. والحقيقة أنه لا يمكن إجبار أطراف على الوصول إلى تسوية ما لم تكن لديهم رغبة ومصلحة وإيمان للتوصل إلى اتفاق مع خصم آخر. وفي الوقت الراهن لا يوجد دافع حقيقي لدى إسرائيل للتوصل إلى تسوية لأن اليمين الإسرائيلي الحاكم توصل إلى حلقة فارغة تمنعه من التوصل إلى اتفاق، فإذا كانت الأحوال هادئة كما هي الآن ولا يوجد ما يقض المخادع الإسرائيلية فإنه لا يوجد ما يدفع إلى تسوية؛ أما إذا استعرت الأمور فإن القضية تصبح فورا أنه لا مكان للتسوية بينما مصير إسرائيل في خطر. المعادلة ذاتها توصل لها الفلسطينيون، فالتسوية بطبيعتها تعطي حقوقا ناقصة، ولا يوجد في فلسطين الآن من هو على استعداد لتقديم تنازلات، وفتح تعرف أن تقديم التنازل سوف يعني إهداء الأراضي المحتلة لحماس، وحماس تعرف أن الحرب سوف تعني إعطاء السلطة لفتح والأرض لإسرائيل. أما سورية فقد خلقت معادلتها المثيرة الخاصة، فهي لا تحارب ولا تسمح لأحد أن يحارب من أراضيها، ولكنها في نفس الوقت على استعداد أن يحارب الجميع وتنسب الحرب لنفسها سواء كانت من لبنان أو من غزة، أو حتى من طهران إذا جاءت الساعة. ويحلو دائما للإخوة في سورية ترديد المقولة الذائعة التي أظن أن كيسنجر كان من قالها وهي أنه إذا كانت الحرب لا تقوم بدون مصر، فإن السلام لا يحدث بدون سورية. وهو قول يعطي السوريين قدرا من مكانة «الممتنع» ومنها تأتي «الممانعة»؛ ولعلها المرة الأولى في التاريخ التي يكون فيها مصدر الفخر ليس تحرير أراض محتلة وإنما منع الآخرين من تحرير أراضيهم المحتلة.

الحالات التي جرت فيها التسوية كانت بين إسرائيل وكل من مصر والأردن؛ وفي الحالة المصرية فإن طبيعة الدولة هي ضرورة تحقيق تكاملها الإقليمي، ولو أن السادات فشل في كامب دافيد وما بعدها في تحرير الأراضي المصرية لخاضت مصر عدة حروب أخرى. «الدولة» هنا لا تسمح بطول الزمن بالنسبة لأراض تم احتلالها بالعدوان الغاشم، ويكون التحرير بالحرب أو بالتسوية، أما حالات اللا سلم واللا حرب فهي حالة لا تتحملها دولة لديها شعب ومؤسسات. الحالة الأردنية رتبها تاريخ الدولة وعرشها، ومنذ بداية القضية كانت الدولة الأردنية ساعية إلى تسوية، وفي المفاوضات مع إسرائيل كان هناك القليل الذي يخص الدولة من أراض، ولكن الكثير كان في ضمان بقاء الدولة منفصلة عن إسرائيل، مستقلة عن الكيان الفلسطيني الجديد.

الأطراف الآن ليست مصر أو الأردن، والقضية ليست علاقة إسرائيل بكل منهما، والساحة مفتوحة بالطبع لتطبيق القوانين الأزلية المشار إليها من قبل، ومن الممكن للدول العربية أن تتجاوب مع اللعبة كما فعلت كثيرا في السابق. لكن المعضلة هذه المرة أن القانون رغم دوامه تتأثر تطبيقاته بأحوال المنطقة التي تعج الآن بتطورات مثيرة تخص إيران التي تندفع بقوة لأسباب داخلية وخارجية نحو طريق سار فيه راديكاليون كثر في المنطقة من قبل، ولا أحد يعرف ما هي النقطة من السلام الداخلي التي سوف تصل لها العراق واليمن والسودان، ولا يوجد هناك قياس واحد دقيق عن حالة الأصولية الإسلامية العنيفة الآن. ولو تم خلط كل ذلك مع البحث عن تسوية فإن القانون مع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تبدو له سمات أخرى يحسن التوجس منها وتقدير شرورها. ومن درسوا علوم السياسة يعلمون أن النتائج التي لم ينتوها أو يتصورها أحد هي التي دفعت التاريخ وغيرت من العلاقات؛ وربما كان الاستسلام لقانون التسوية في الشرق الأوسط مريحا للساسة، ولكن الراحة عادة لا تكون لمدة طويلة!!.