آفة الأخبار رواتها

TT

تربط إسبانيا بالبلاد العربية علاقات ثقافية وعاطفية تتجلى فيما يبدو على الجانبين من مراعاة للماضي المشترك المعبر عن نفسه بمختلف المظاهر. ومعلوم أن تلك العلاقات قد مرت طيلة التاريخ، عبر القناة المغربية الإسبانية في أغلب الأحيان، وبسبب هذا القرب الوثيق فإن ما بين المغرب وإسبانيا أمر شديد التعقيد، لا يساعد على تكوين رؤية متوازنة.

كتب التهامي الوزاني، أحد رجال الفكر المغربي، أن ما من شعبين يتباغضان بعمق دفين مثل ما يتبادل المغاربة والإسبان، مشاعر الكراهية، بسبب العقد الموروثة عند كل جانب، التي تنمي عند كل منهما التحفظ وسوء الظن تجاه الآخر. كتب ذلك في الثلاثينات من القرن الماضي، حينما أراد فرانكو أن ينسج سياسة وداد تجاه المغاربة ليكسب السكينة في منطقة الحماية الإسبانية بالمغرب. وكان الوزاني قد أضاف أنه رغم ذلك فإن هناك ضرورة لانتحال موقف مداهنة ونفاق من جانب المغاربة إزاء عدو غالب، من نكد الحياة أن يضطر المرء إلى مصادقته.

ومرت أزمان وتغيرت طبيعة العلائق بين المغاربة والإسبان مجتمعا ودولة، ولكن ما زالت العقد الدفينة تصبغ العلاقات بين الطرفين. ويمكن القول إن العلاقات بين الحكومتين تحسنت كثيرا أثناء العقود الثلاثة الماضية. وكذلك العلاقات بين القيادات العسكرية، ورجال الأعمال. ولا أتصور أن أجهزة المخابرات في البلدين يمكن أن تفرط في فرص التعاون وتبادل معلومات حيوية لأمنهما. ولكن شيئا من سوء الظن يبقى ثاويا في مخيلة رجل الشارع هنا وهناك وخاصة لدى الطرف الإسباني.

إن استطلاعات الرأي التي ينجزها مركز البحوث الاجتماعية في إسبانيا تدل على أن أكبر قدر من الرفض الذي يضمره رجل الشارع الإسباني إزاء مختلف الأجناس هو ذلك الرفض الموجه نحو المغربي. ومن جهة المغاربة فإن العكس هو الحاصل إذ بين استطلاع للرأي أن رجل الشارع في المغرب يعتبر إسبانيا مثالا للنجاح السياسي، بزيادة نقطتين على فرنسا. أي أن المغربي ينظر بواقعية إلى التغير الذي وقع في الوضع بإسبانيا في حين أن رجل الشارع الإسباني ما زال ينظر إلى المغربي من خلال عقد الماضي.

وقد جمعت الآلاف من التعليقات والمواقف التي حفلت بها الصحف الإسبانية بمناسبة ثلاث أزمات عويصة مرت بها العلاقات المغربية الإسبانية في العشر سنوات الأخيرة، أنا الآن بصدد تصنيفها وتحليلها، وهي تبين كيف أنه في حالة الغضب تطفو على السطح مشاعر غير مراقبة تنطق بما في الأحشاء من ضغائن وعقد.

إن رجل الشارع في إسبانيا لن يهضم قط أن المغربي نظير كفء ومخاطب ند. فإذا كان ينظر إلى الفرنسي بدونية، وإلى البرتغالي باستعلاء، فهو ينظر إلى المغربي بحقد، وذلك لأسباب دفينة تمتد إلى قرون، ومنها ما تجدد في القرن الماضي، الذي كان قرنا إسبانيا بلون مغربي، ابتدأ بانتفاضة برشلونة الدامية التي اندلعت على وقع الاحتجاجات ضد حرب الريف الأولى (1906). وبعد ذلك حينما همت إسبانيا ببسط نفوذها بعد فرض الحماية على المغرب في 1912 تكبدت نفقات لا قبل لها بها لتوسيع منطقة الاحتلال، ومنيت في خضم ذلك بأكبر هزيمة تلقتها على يد المغاربة منذ وقعة الزلاقة، حينما تمكن محمد بن عبد الكريم الخطابي من سحق جيش إسباني بكامله في معركة أنوال سنة 1921. وكان من ذيول معركة الريف الثانية أن تعرضت إسبانيا إلى انقلاب عسكري قاده الجنرال بريمو دي ريفيرا سنة 1924. ثم في 1936 اندلعت ثورة فرانكو على الجمهورية انطلاقا من التراب المغربي. ثم إن جل فترات نظام الحماية كانت ذكرى سيئة في المخيلة الإسبانية جرت إلى سلسلة من الإحباطات. واستمرت المواجهات مع المغرب من 1956 إلى 1975 كل مرة بسبب نزاع ترابي حول طرفاية وإيفني والصحراء.

وإذا كان وضع العلاقات بين البلدين، على الصعيد الرسمي، قد استوى على قاعدة من الواقعية وتبادل المنافع، منذ استتباب الديمقراطية في إسبانيا، فإن المخيلة الشعبية في إسبانيا لم تتحرر بعد من عقد الماضي. ويزيد من حدة ذلك أن الصحافة الإسبانية تغذي روح التحفظ إزاء المغرب يوما بيوم.

وقد أنشئ منذ نحو ثلاث سنوات، بمبادرة من المجتمع المدني في المغرب، محفل أطلق على نفسه اسم «المركز المغربي للذاكرة المشتركة» الذي ينكب على إفراز بعض عقد الماضي، وحصرها قصد تحليلها بكيفية مشتركة هي بمنزلة جلسات بوح لتفريغ المكبوتات وتشخيص العقد النفسية المترسبة من الماضي المشترك خاصة في العصر الحديث.

ويضم هذا المحفل أكاديميين وحقوقيين. وفي إطار محاولات إيجاد مقاربات مشتركة بين فاعلين متنوعين من الجانبين، نظم لقاء بين مجموعة من الصحافيين من البلدين لتبادل الرأي حول سبل معالجة مسائل الذاكرة المشتركة من لدن فئة من المهنيين يتابعون يوما بيوم ماجريات الأمور في كل من البلدين، ويخلقون الانطباع العام لدى قرائهم ومتلقي رسائلهم عبر الوسائط المسموعة والمرئية، بشأن الطابع العام لما يجري تداوله فيما بين الطرفين في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

وكان طبيعيا أن تتنوع المقاربات، من هذا الجانب وذاك. ومرة أخرى تأكد أن الزملاء الإسبان تصرفوا كفريق من النشطاء المتحمسين لتطبيق أجندة محددة سلفا. ولما تحدثت إحدى الزميلات الإسبانيات عن ضرورة التنديد بوقف جريدة «لوجورنال» انبرى رئيس الجلسة وهو معتقل سياسي سابق، وذكر أنه كتب متضامنا مع الجريدة الموقوفة، وأن اللقاء مكرس لتناول مسائل تتعلق بالذاكرة المشتركة، ولا يدخل فيها الموضوع الآني الذي أثارته. ودعاها إذا ما كانت متمسكة بمطلبها أن تندد مثلا باستمرار احتلال بلدها لسبتة ومليلية، وحينذاك قد يجد الزملاء المغاربة مبررا لإدراج الموضوع الذي يهمها في بيان منفصل.

لكن من المعروف أن النشطاء الإسبان قد أنشأوا مخرجا يسلكونه فيما إذا تعرضوا للحرج بشأن قضايا من قبيل ما طرحه رئيس الجلسة. فقد أفتى زعيم شيوعي إسباني لتبرير التراجع عن سابق تأييد حزبه لإرجاع المدينتين إلى أصحابهما فقال: إن ذلك لن يتم إلا إذا أصبح في المغرب نظام ديمقراطي. ولصانعي الرأي العام سلطة تقديرية واسعة لتحديد شروط هذا النظام الديمقراطي الكامل الأوصاف.

وتم توسيع أوجه استعمال هذه التخريجة، لتبرير سلوك يومي يلوذ بها الإعلام في إسبانيا لتسويد صفحة المغرب، والتركيز على التعرض فقط للجوانب السلبية التي تنتجها الظرفية المغربية. فإلى الآن رغم مضي عدة شهور على وصول القائد السياسي والعسكري أحمد ولد سويلم من معسكرات تيندوف إلى المغرب، لم ينشر الخبر في جريدة إسبانية رئيسية، وهي من جهة أخرى لم تنشر أي كلمة عن مغادرة ما يزيد على سبعة آلاف عنصر من أعضاء البوليساريو سابقا لمخيمات تيندوف.

وهذا من وسائل التعمية التي يسلكها الإعلام الإسباني بخصوص المغرب، حيث يوقع الرأي العام ببلاده في تضليل ويحجب عنه الواقع المغربي، وبالتالي يظل هذا الرأي العام منطويا على نظرة غير واقعية بشأن المغرب. وهو عكس ما يحدث في الجانب المغربي الذي له صورة واقعية عن إسبانيا، وهي عموما إيجابية.

وهكذا ففي معركة المعلومات يمكن القول إن المغاربة يوجدون في موقف متفوق على جيرانهم الإسبانيين. هذه صورة لما يحدث مع الغرب عموما.