التوقع والخيال السياسي والفانتازيا الثورية

TT

أرسل هذا المقال بالبريد الإلكتروني إلى جريدة «الشرق الأوسط» وأنا أتوقع أن يصل. أفتح صنبور المياه وأنا أتوقع أن تنزل منه المياه. أضع مفتاح الكونتاكت في مكانه وأنا أتوقع أن يدور الموتور على الفور أو بعد لحظات. أتوقع الحصول على مرتبي أول الشهر. قائد عربة الإسعاف يطلق سرينته أشبه بصرخات الاستغاثة وهو يتوقع أن تفسح له باقي السيارات مساحة هو في حاجة ماسة إليها لإنقاذ حياة شخص. يفتح الطبيب بطن المريض وهو يتوقع أن ينجح في إجراء العملية بنجاح. وكل حكومات المنطقة العربية المسؤولة تتوقع نجاح المباحثات الفلسطينية - الفلسطينية والفلسطينية – الإسرائيلية. والرئيس أوباما كان يتوقع أن يقطع خطوات مهمة على طريق السلام في الشرق الأوسط في وقت وجيز. وفي النهاية فاجأ سكان الشرق الأوسط - ولم أفاجأ أنا - بقوله إنه توقع الكثير الذي لم يتحقق.

وبينما أكتب لك الآن هناك ذبابة تضايقني. أمسكت بالمضرب البلاستيك وبكل ما أملك من قوة وسرعة وحرفة وهويت عليها فطارت الذبابة بعيدا قبل أن ألمسها. هي أيضا توقعت الضربة، ولأنها توقعتها تمكنت من النجاة. وبالأمس مساء تابعني كلب في شارعنا وهو ينبح في ضراوة فانحنيت على الأرض وتناولت حجرا وهميا ثم استدرت له فتراجع على الفور وهو يصدر نباحا أقرب للشتيمة.

أنا أريد فقط أن أوضح لك أن التوقع في المملكة الحيوانية كلها عملية لا واعية ولا إرادية. هي عملية تفكير حتمية أشبه برد الفعل الغريزي من أجل حماية الكائنات الحية من الأخطار التي تتهددها. عندما حشد عبد الناصر كل قواته إلى سيناء في مايو (أيار) 1967 ماذا كان يتوقع؟ وعندما اخترقت جماعات الحوثيين الثورية الحدود السعودية، ماذا كانوا يتوقعون؟ وماذا يتوقع السيد أحمدي نجاد من الغرب بينما هو كل يوم يلوح لهم بتهديد جديد؟

كل هذه الأفعال ليس لها صلة بأخطر عناصر العمل في السياسة وهو الخيال السياسي. هي مقطوعة الصلة بعناصر الواقع، كما هو عليه على الأرض ولا شأن لها بمسؤولية الوعي السياسي بحساباته المعقدة والقائم على الإحساس بالمسؤولية عن حياة البشر. الزعيم الفرد وجماعته يفكرون في هذه الحالة تحت ضغط الفانتازيا وليس الخيال. فالخيال هو القدرة على استيعاب الواقع والقفز إلى ما ورائه لتحقيق هدف سياسي متقدم. وهو ما يعني القدرة على خلق واقع جديد طبيعي وقابل للازدهار. الفانتازيا مكانها الطبيعي هو الإبداع الفني. أما إذا أخطأت طريقها وسكنت عقل رجل السياسة فلا بد أن تولّد فيه طاقة هائلة من الأوهام والتهاويم التي تشعره بقوة لا يمكن تخيلها. هو يتحول إلى سفينة لا تحركها الريح بل هي التي تتحكم فيها. وإذا كانت الرياح أحيانا لا تأتي بما تشتهيه السفن، فهو على يقين بأن الرياح ستخضع لما تشتهيه سفينته. ويستمر مستمتعا بهذا اليقين الممتع إلى أن تأتيه الضربة من الواقع المحيط به ليذكره بوجوده. أليس من المدهش أن اللغة العربية اشتقت كلمة توقع من الواقع.. القدرة على التوقع هي نفسها القدرة على فهم الواقع ثم استخدام عناصره لتحقيق الهدف السياسي.

تستطيع بسهولة التنبؤ بردود أفعال كل رجال الدولة على وجه الأرض، وذلك على ضوء فهمك لمصالح هذه الدولة وإمكانياتها ووسائلها وتاريخها. أما الزعيم الثوري فمن المستحيل أن تنجح في ذلك، وهذا راجع إلى أننا نتصور أو نتخيل أن له هدفا يحقق له أو لشعبه مصلحة ما. ما يتخيله ليس خيالا يمكن فهمه أو إدراكه، بل فانتازيا ارتدت ثياب السياسة.

فهل كان أنور السادات عاجزا عن التوقع؟ هل كان صاحب فانتازيا سياسية دفع حياته ثمنا لها؟ أم كان صاحب خيال سياسي تصاحبه جرأة وشجاعة عظيمتين، مكنته جميعا من تحقيق هدفه السياسي تماما كما توقعه وهو تحرير الأرض المصرية تمهيدا لرفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني ثم التحرك في اتجاه إقامة الدولة الفلسطينية. إن اغتياله بواسطة عناصر من الاتجاه الديني المتطرف لا تعني أنه أخطأ في مبادرته. على الأقل استطاع بموته أن يقول للمصريين جميعا: لقد استعدت لكم الأرض ودفعت أنا وحدي الثمن. . لستم مطالبين الآن بخوض معارك أخرى تفقدون فيها حياتكم وأرزاقكم. . اتفضلوا اشتغلوا.

الخيال السياسي يثبت أقدام رجل الدولة على الأرض. أما الفانتازيا فهي كفيلة باقتلاعه من عليها وإلقائه في ركن بعيد من التاريخ بصحبة زملائه الذين شغلوا شعوبهم، ليس بالعمل والإنجاز للوصول للرفاهية التي يستحقها الإنسان، بل بتحريضهم على مواجهة أعداء صنعتهم الفانتازيا التي سكنت عقله لأنه يفتقر إلى الحب، حب الحياة والرغبة في الدفاع عنها.

رجل الدولة صاحب الخيال السياسي عينه على المؤرخ: ماذا سيقول عني المؤرخ؟ أما الزعيم الثوري صاحب الأفكار الفانتازية فعينه على الشارع، ليس على كل الناس في الشارع، بل على هؤلاء التعساء الذين استولت عليهم الكراهية والعجز عن التعامل مع الواقع. من هنا يأتي حرص الزعيم الثوري على زيادة عدد العجزة التعساء لكي يضمن جمهورا أكبر وأكثر استجابة لغوغائيته إلى أن تحدث له ضربة يستحيل التنبؤ بمصدرها.