الصراعات الجديدة حول رموز الوجود الإسلامي في الغرب

TT

في يوم 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 2009 أقر الشعب السويسري إدخال بند في الدستور الفيدرالي ينص على حظر بناء أي مآذن جديدة في البلاد، ويعارض به كل نصائح رفض الاستفتاء التي قدمتها الحكومة ومعظم القوى السياسية والدينية على حد سواء. وقد أثار الاستفتاء موجة من الشعور بالدهشة والغضب في أغلبية بلدان أوروبا. ومع أنه لا سوابق لهذا الاستفتاء في أوروبا أو خارجها، فإن الحوار الذي أطلقه لم يكن فريدا من نوعه؛ إذ في الوقت الذي كانت تناقش فيه سويسرا قضية المآذن كانت فرنسا تشهد جدلا آخر يمزقها حول مسألتي البرقع والهوية الوطنية.

وإن فتحت هذه القضايا المختلفة بدعوى الدفاع عن العلمانية جراء الانتشار الإسلامي المزعوم في القارة القديمة فستختم خلافا معها إذ تشارك في إعادة مركزية الشأن الديني و«قدسيته» بسبب الحماية التي تضمنها تمسك أوروبا بمبادئ حقوق الاعتقاد!

إن التصويت السويسري الأخير والمناقشات الراهنة في فرنسا حول البرقع والهوية الوطنية؛ كل ذلك يشير إلى خلل جديد في الحوار العام في أوروبا: الدين يعود إلى الفضاء العام عبر خطاب عاطفي وشعبوي يناقشه بغرض التأكيد على خطره. فقد اعتدنا أن تظهر باستمرار، أثناء الحوارات حول الوجود الإسلامي في الغرب، مواقف تناقش الإسلام كعقيدة وكمنظومة قيم، وهي تأتي عادة بطلب منه أن يُصلح نفسه ليكون موافقا لما يُزعم أنها «القيم الغربية» (على الرغم من أن كل الأدلة العلمية أكانت في الدراسات التاريخية أو في العلوم الاجتماعية تكذب هذه الرؤية). ومن ثم فقد أصبح الإسلام مثل مرآة للهويات الغربية المأزومة.

فإن كان من بادروا بفرض هذا الحوار هم من كبار المسؤولين والمفكرين فعلينا أن نسأل إذن عن تعريف «الإسلام المقبول»، أو الموافق لقيم الغرب، هل يعد ضمن مسؤولية أهل السياسة؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل ينبغي أن يعالج الشأن الديني بواسطة القوانين والدساتير؟

لقد أصبح الإسلام في قلب الحوار حول هوية فرنسا الوطنية مثلما كانت مناقشة العقيدة الإسلامية مركزية طيلة الحملات الإعلامية التي سبقت وتلت استفتاء 29 نوفمبر؛ إذ تجاوز الحوار سريعا مسألة المآذن في حد ذاتها لينفتح على الإسلام بشتى أبعاده: عقيدة وعبادات ومعاملات. أخذ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي زمام المبادرة، في عمود رأي نشرته جريدة «لوموند» يوم 9 ديسمبر (كانون الأول)، داعيا المسلمين فيه إلى احترام التراث المسيحي لفرنسا وقيم الجمهورية. وبالتالي وضع الإسلام في قلب الحوار الفرنسي حول مسألة هويته الوطنية. وصارت تُطرح في كل مكان مسألة حدود الشأن الديني: هل يعد البرقع من الواجبات الدينية التي فرضتها النصوص الإسلامية على النساء المسلمات؟ وهل تعد المئذنة من أركان الإسلام أو منتِج الثقافة والتاريخ؟

تدخل السياسة هذا في الشأن الديني (عبر تحديد حدود الفضاء الديني، فرض أحكام القيم، وتعريف معنى الرموز الدينية)، وهو ما يعتبر أولا مخالفة لمبادئ العلمانية التي تقر الفصل بين الشأنين الديني والسياسي. وأكثر من ذلك كله يقوم هذا التدخل على التعامل مع الإسلام كقضية ثيولوجية أو عقائدية محضة، بدلا من أن يُؤخذ بعين الاعتبار أولا الواقع الحقيقي للمسلمين في الغرب، أي الإسلام المعيش. فمن ثمّ ينتظر من الإسلام أن يكون بصيغ مختلفة: «إسلام فرنسي» أو «إسلام جمهوري» أو «إسلام مستنير» أو، أخيرا وليس آخرا، «إسلام.. لائيكي» (laïc العلمانية السياسية الفرنسية الاعتقاد الذي تدافع عنه كل دساتير الدول الغربية ومبادئ المجتمع المحيط به، إسلام...). وهنا، في سويسرا، فرض إسلام بلاد البلقان نفسه كقدوة، لأنه «متواضع» أو «مُعَلْمِن». ولكن ما يطلب من الشأن الديني أكثر من احترام القانون فحسب، بل إنه توافق أوسع بين قيمه الأساسية ومبادئ المجتمع المحيط به. فما يخرج عن صيغة التوافق هذه (أي يخالف هذا النموذج المثالي المذكور) سيصبح مشكوكا فيه وقابلا للحظر. ولكن الدين في الغرب محمي بحرية الاعتقاد التي تدافع عنها كل دساتير الدول الغربية. وتستند - ضمن أسباب أخرى - مناقشات حول مكانة الرموز الدينية المذكورة في العقيدة الإسلامية ومحاولات إخراجها منها وإعادة تعريفها كأجزاء من التاريخ أو الثقافة إلى ضرورة التمييز بين الديني وغير الديني لفتح فضاء قابل لممارسات المنع والحظر: فلا يعد حظر المآذن، مثلا، من الانتهاكات للحريات الدينية ما دامت تندرج، أي المآذن، في خانة المظاهر الثقافية للإسلام وليس في إطار أركانه الأساسية. ومن ثم لا يمثل الحظر مخالفة لحرية الاعتقاد! وقد سمعنا هذه الفرضية مرارا وتكرارا على لسان مناصري منع بناء المآذن في سويسرا أو دعاة تجريم النقاب في فرنسا أثناء المناقشات التي نظمتها البعثة البرلمانية المكلفة بالملف.

ولا يختلف المنطق من بلد إلى بلد ويتبع باستمرار نفس السيرورة: في الأول يقوم الحوار السياسي بتعريف حدود المجال الديني (عبر البحث عن التمييز بين ما هو ديني وما هو ثقافي أو تاريخي)، ثم يفرض الحوار السياسي معاني للرموز الدينية المثيرة للجدل (الحجاب يعني الطاعة للزوج، المئذنة تعني الانتشار والهيمنة السياسة وإشارة للفتح الإسلامي)، ثم الإعلان عن عدم التوافق بين الرمز الديني - ثقافي وقيم المجتمع المحيط به، ثم أخيرا قمعه كما حدث في فرنسا عام 2004 مع قانون منع الرموز الدينية في المدارس العامة وفي سويسرا مع التعديل الدستوري الذي أقره الشعب عن طريق الاستفتاء.

إن تحديد حدود الدين يعتبر طريقا لفتح مجال «شرعي» للقمع، إن هذا المنطق يؤدي حتما إلى فتح المجال إلى الجدل الديني. ففي حين ناقشت فرنسا قانون منع الحجاب في المدارس، ذهب الرئيس ساركوزي إلى مصر ليطلب من الإمام الأكبر للأزهر فتوى تتفق مع إرادته. وفي سويسرا تنصح الحركة السويسرية لمكافحة المد الإسلامي (le mouvement suisse contre l’islamisation) بقراءة القرآن للاستفادة منه في نقض حجج الإسلاميين! وأوسكار فرايزنغر، أحد أقطاب الاستفتاء السويسري، دخل في إحدى المناظرات التلفزيونية حاملا القرآن في يده وفتح المناظرة وواجه فيه المفكر المسلم طارق رمضان بتفسير (خاص له بطبيعة الحال) لمعنى الأذان!

ولكن حتى وإن وجدنا آثارا للمئذنة أو للبرقع في نصوص القرآن والحديث، فهل هذا الوجود سيزيد قبولهما عند المواطنين السويسريين والفرنسيين؟ ولو كانت هذه المظاهر الدينية تزعجهم فهل سيذهب القلق في حال استنادها إلى شرعية دينية غير قابلة للنقاش؟! إن طرح الموضوع بهذه الطريقة يعتمد على خطأين. أولهما يستمد من أننا نعطي للنصوص الدينية دورا توجيهيا في الشأنين السياسي والاجتماعي، وثانيهما هو رفض إعطاء الدين أي أبعاد تاريخية أو ثقافية وحصره في نصوصه التأسيسية. وخطورة هذه الطريقة من التفكير أنها تؤكد الأطروحة الأصولية التي لا تعترف إلا بالنصوص وتحارب كل إبداعات التاريخ في المجال الديني اعتبارا من أنها تعتبر نوعا من البدعة، في الوقت الذي تطالب فيه مسلمي الغرب بالتخلص منها!

لا شك أن التصاعد المستمر للجاليات الإسلامية ونمو الجمعيات والمنظمات، موضوع ينبغي الحديث عنه. إنما لا بد للحوار السياسي أن يحترم بدوره مبادئ العلمانية التي يدعو المسلمين إلى قبولها. وإن تم ذلك فعلى الغرب أن لا ينظر إلى الوجود الإسلامي في بلاده من باب التوافق (بين الإسلام كعقيدة والغرب كحضارة موحدة)، وما يتلو من مطالب لإصلاح الإسلام وأن نطلب من المسلمين، بدلا من إصلاح العقيدة الإسلامية، أن يحترموا القانون، تماما مثل باقي المواطنين.. وهذا احترام لمبدأ العلمانية.

* أستاذ زائر في جامعة أيكس آن بروفانس ومؤلف كتاب «المفكرون الجدد في الإسلام»

*من كبار الباحثين في المرصد السويسري للأديان.. وأشرف على كتاب «معارك حول الإسلام في الغرب: قضية حظر بناء المآذن

في سويسرا»