أميركا وإيران والمجتمع الدولي والخليج

TT

مضى عام 2009 والطرفان الأميركي - الإسرائيلي من جهة، والإيراني من جهة أخرى، يستفيدان من «حديث» الحرب. لكنه بعد هذا الأسبوع لن يعود حديثا، بل سيصبح «أحاديث» بالمعنى القرآني الملحمي لذلك. فقد جاءت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية إلى قطر والعربية السعودية، يصحبها القادة العسكريون (من رئيس الأركان المشتركة وإلى قائد القيادة المركزية باتريوس الشهير)، وعدد كبير من نوابها ومساعديها، الذين طافوا لإبلاغ الرسالة ذاتها في بلدان المشرق العربي.

ولا شك أن هذه «الحملة» الدبلوماسية - العسكرية المقصود بها أن تبعث على التهيُّب، وإثبات جدية الولايات المتحدة في منع إيران من إنتاج أسلحة للدمار الشامل بلغة أميركا ولجنة «5 +1». وقد شهد الشهران الماضيان استعدادات لهذه اللحظة (لحظة العقوبات أو الحرب، والعقوبات تؤجِّل الحرب ولا تُلْغيها) ومن جانب الطرفين: من جانب الولايات المتحدة التفاوُض مع روسيا والصين، ونشر قواعد صورايخ مضادة للصواريخ في أربع من دول الخليج، وحشد أساطيلها إلى الأسطولين الفرنسي والبريطاني في الخليج والبحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي. ومن جانب إيران بالاندفاع في التخصيب، وتجربة أنظمة صاروخية جديدة، والتهديد بإشعال المنطقة، وأخيرا التهديد بإقفال مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية.

وللقصة التي تتسارع فصولُها أمام أعيننا تاريخان أو مرحلتان: مرحلة الهجمة الأميركية على أفغانستان والعراق، وانتشار جيوشها وأساطيلها وقواعدها في سائر أنحاء ما صار يُعْرَف بمنطقة الشرق الأوسط، ومرحلة الاتجاه الأميركي للتفاوُض مع إيران، والتفاوض أيضا على الخطّ الإسرائيلي - الفلسطيني. بدأت المرحلة الأولى في الشهر العاشر من عام 2001 بعد هجمات سبتمبر (أيلول) من جانب «القاعدة» على الولايات المتحدة، من دون أن يعني ذلك انحصار أسباب الغزوات بالقاعدة. وبلغَتْ أَوجَها عام 2005 واحتاجت الولايات المتحدة لإعادة التقدير والمراجعة في العامين 2006 و2007؛ لتبدأ في ذلك العام مرحلة الخطّ التفاوُضي على أثر تقرير بيكر - هاملتون المعروف، الذي نصح بالتفاوُض مع سائر الأطراف بالمنطقة.

فلنتأمل المرحلة الأولى التي أسَّستْ للمرحلة الثانية في سياق الاستراتيجية الواحدة للأَوحدية الأميركية في منطقتنا على الأقل. فعام 2001 و 2002 قررت الولايات المتحدة غزو أفغانستان بذريعة احتضان «القاعدة»، كما قررت غزو العراق بذريعة برنامجه لإنتاج أسلحة الدمار الشامل، ومساعدة نظامه للإرهاب أو إيواؤه له. وكان لا بد من التشاور مع الأطراف المؤثرة أو التي يمكن أن تقف - ولو سياسيا - ضد الغزوات. وقد كان الأمر في حالة أفغانستان سهلا نسبيا بسبب وجود «القاعدة» هناك. ولذلك تعاونت روسيا، وتعاونت الهند، وشاركت باكستان (عبر الجنرال مشرَّف الذي كان قد انقلب على الحكومة المنتخبة هناك عام 1999)؛ إنما المُفاجئ كان التعاوُن الإيراني الذي تجاوز «الدعم الإنساني واللوجيستي» كما قيل وقتَها. وجرى تبريرُ ذلك بعدوانية «القاعدة» وطالبان تجاه إيران، واضطهاد الطرفين للشيعة في أفغانستان. وكان أمر العراق أصعب. فروسيا والأوروبيون لم يروا مسوِّغا حقيقيا للغزو، باستثناء بريطانيا التي شاركت الأميركيين مشروعهم منذ البداية، وكذلك إسرائيل. إنما المفاجئ بالفعل مشاركة إيران في الحرب على العراق وليس تعاونها وحسْب. فقد سمحت للمعارضين العراقيين للنظام بالدخول بأسلحتهم، بعد أن كانت قد وافقت على حضورهم في مؤتمري لندن وصلاح الدين، للإعداد للغزو. ويمكن فهم ذلك، ظاهرا وحسب، بأنّ النظام العراقي السابق كان عدوا للجمهورية الإسلامية وشنّ عليها حربا دامت ثماني سنوات، وأن إيران تحملت لعقود أمواج الهجرة العراقية هربا من مظالم النظام. بيد أن العلاقات بين الدول لا تُفْهَم بالسلْب وحسْب؛ أي أن إيران لا تريد النظام العراقي الذي كان قد صار ضعيفا بسبب الحصار ولا يُهدِّد أحدا. ثم إن الولايات المتحدة كانت في أشد الحاجة للحلفاء (والشركاء) في عملية غزو العراق بالذات، بسبب المعارضة العالمية لتلك الحرب. ولذا لا بد أن يكون هناك شيء أو أشياء تتجاوز ذكاء أحمد الجلبي الذي قيل إنه كان وسيطا في العلاقة الأميركية - الإيرانية، ثم اتهمه الأميركيون بأنه كان عميلا إيرانيا؛ في الوقت الذي كان هو فيه يتلقّى الدعم المالي واللوجيستي من الأجهزة الأميركية ووزارة الدفاع! فحتى عام 2006 (قبل حرب تموز)، وفي آخر اجتماع لدول جوار العراق بطهران حينها، قال وزير الخارجية الإيراني للحاضرين: إذا كنا نريد أن ينسحب الأميركيون من العراق، فلا بد أن تتوقف الأعمال العدائية ضدهم! وعام 2007 جرت اجتماعات بين الأميركيين والإيرانيين بالعراق لحل الإشكالات المتصاعدة بين الطرفين بالعراق أو معالجتها. ومنذ عام 2005 يقول الخبراء الاستراتيجيون: إن الغزوين الأميركيين أحدثا خللا استراتيجيا لمصلحة إيران. لكنْ يبدو أنه بعد أواسط عام 2007، تضاءلت نقاط التلاقي وإمكانات التعاون في العراق وفي المسائل الأخرى، مع أن الأميركيين كانوا يتجهون إلى المرحلة الثانية أي العودة لاعتبار التفاوض أُسلوبا في سائر ساحات وجودهم بالمنطقة، إنما بما لا يُخلُّ بالأرجحية والتفوق والأَوحدية، التي تظل الجيوش أساسها. فعلى ماذا كان الأميركيون والإيرانيون متفقين، وعلى ماذا اختلفوا؟ هل كانوا متفقين على أفق للنفوذ الإيراني بالعراق وبالمشرق العربي مثلا، ثم تراجعوا ( أي الأميركيون) عن بعض ذلك؟ أم هل أَمَّل الإيرانيون أن يَغُض الأميركيون النظر عن برنامجهم النووي، كما غضُّوا النظر عن البرنامج النووي الباكستاني لحاجتهم إلى باكستان في الحرب على روسيا والشيوعيين بأفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي؟! في كل الأحوال فإن حرب تموز (يوليو) في عام 2006 أَثبتت بما لا يدع مجالا للشك، ماذا تستطيع إيران الثورية وأنصارها القيام به إن جرى تجاهُل مصالحها أو مطامحها. وبالفعل فإن الولايات المتحدة فهمت الرسالة، واتجهت رغم كل الصراخ الإسرائيلي للتفاوُض بحسب خطة بيكر - هاملتون في العام الأخير من ولاية الرئيس بوش الثانية. ولنتذكر أن وزير الدفاع الأميركي الحالي غيتس كان عضوا في لجنة بيكر-هاملتون، وقد خلف رامسفيلد في وزارة الدفاع الأميركية وما يزال. ولنتذكر أن باتريوس كان قائد القوات الأميركية بالعراق، وهو الذي دَبَّر قصة الصحوات لمكافحة «القاعدة»، ولإحداث شيء من التوازن في العملية الأمنية والسياسية هناك. وهو الآن قائد القيادة العسكرية المركزية بالمنطقة. وهكذا فالعسكريون والاستراتيجيون الذين أداروا المسائل العسكرية - السياسية في العامين الأخيرين من ولاية بوش الثانية، ما يزالون هم المسيطرين على المسائل نفسها في مفتتح العام الثاني من ولاية الرئيس أوباما. وهؤلاء القُدامى/ الجُدد هُم الذين طافوا بالمنطقة خلال عام 2009 محذِّرين ومُطمئنين - وقد أُضيف إليهم من أجل الخطين التفاوُضيين والآليات الأخرى كُلٌّ من دنيس روس وهولبروك على الجانب الإيراني والأفغاني، وجورج ميتشل على الجانب الإسرائيلي - الفلسطيني.

إننا نشهد اليوم انسداد الخطّ التفاوُضي الإيراني- الدولي، من دون أن يكون قد انطلق حقا خلال الشهور الأربعة أو الخمسة الماضية. ونشهد استمرار تعثُّر الخط التفاوُضي الثاني، أي الإسرائيلي - الفلسطيني، الذي شهد خلال عام 2009 عشرات الجولات المكوكية من جانب جورج ميتشل. فما الذي أَوقف التفاوُض على الخطَّين؟ أمّا الخط الثاني فإن إسرائيل هي التي أوقفته علنا وصراحة. وقد ذكرتْ لذلك أسبابا مختلفة من بينها الخوف من النووي الإيراني، والخوف من صواريخ حزب الله وقُدُراته القتالية. وإذا أخذنا بالذرائع الإسرائيلية فستبدو العلاقة بين الملفين التفاوُضيين وثيقة أو قوية، بينما الواقعُ غير ذلك. فالحكومة الإسرائيلية الحالية لن تفاوض بشروط أوسلو وحدود عام 1967، حتى لو لم تكن هناك صواريخ أو تهديدات. والولايات المتحدة لا تقبل الشراكة الإيرانية لا في مناطق النفوذ، ولا في الخليج، ولا في القُدُرات الصاروخية والنووية، ولا في تهديد إسرائيل. وإذا كان هذا هو تفكير الأميركيين، فما هو تفكير الثوريين الإيرانيين؟ هناك من يقول إن الإيرانيين لن يتراجعوا عن الخطوط التي بلغوها في سائر النواحي الجيوسياسية أو التسلُّحية، وهم مستعدون للدفاع عنها ولو بالحرب. وقد حفلت السنوات الثلاث الماضية بجولات الكر والفر، لكنها جميعا كانت غير مباشرة. والذي يظهر الآن أن الأميركيين يريدون استدراج خصمهم إلى نزاع مباشر، يقول الإيرانيون إنهم لا يخشَونه. ويؤشِّر الطرفان إلى منطقة الخليج ومضايقها وبحارها كأنما لإخافة كلٍّ منهما للآخر. وهكذا فهناك سير حثيث باتجاه الحرب. وحتى العقوبات لن تحول دون الحرب؛ بل إنما تؤخِّرها. ويبلغ الأمر بالأميركيين أن يقولوا للصين: إنها إنْ وقفتْ في وجه العقوبات في مجلس الأمن فإنها تتسبَّب في تسريع احتمالات الحرب!

في القديم، كان كتاب رسائل النصائح السياسية، يحذّرون الذين يكتبون لهم تلك النصوص من خوض الحرب مهما بلغت قوة جيوشهم، لأن الحرب تتضمن دائما مجهولا لا يمكن أَخْذُه في الحسبان. لكن المشكلة الآن أن الطرفين مُوقِنان من الانتصار، فالمجهول المَخوف لدى الطرفين غير موجود، وإلا لتردد أحدهما أو تنازل. فبالنسبة للأميركيين كل الاحتمالات واردة. ونجاد يرى أن المقاومة ودول المنطقة (يقصد إيران) قادرة على سحق أي هجوم. فلا حول ولا قوة إلا بالله.