جورج.. تعبان

TT

جورج بيكر، من أبرز كتاب التحقيقات الصحافية المطولة التي يستغرق إعدادها عدة أشهر أحيانا، ينشرها هذا الصحافي الامريكي بمجلته (نيويوركر) ابرز مجلة تحقيقات صحافية.

قبل ذلك، هو روائي ومتخصص بالتاريخ، هذه «أدواته» التي دخل بها عالم التحقيقات الصحافية، بالصدفة.

برز مؤخرا بعد قصصه التي كتبها من العراق، واخرج بعضها في كتب، منها كتاب «بوابة الحشاشين» الذي صنفته جريدة نيويورك تايمز كأفضل كتاب صحافي في 2005، وحصد عدة جواز صحافية.

في الحوار الممتع الذي أجراه معه زملينا «الثري» محمد الشافعي في هذه الجريدة يتحدث جورج كيف انه كان يجد صعوبة في أخذ المعلومات المهمة من ذوي النفوذ من كبار الضباط أو الساسة، ولكنه كان يجدها لدى العسكر الأمريكيين العاديين كما سماهم. كانوا عاديين لكن ليسوا سذجا، التحدي كان كيف يكسب ثقتهم ويغريهم بالبوح له، وهو ما كان يستغرق منه الإقامة أسابيع.

نحن، إذن، أمام صحافي غير عجول ولا سطحي، صحافي يريد فعلا البحث عن الحقيقة، أو ما يبدو له انه الحقيقة، مثقف وقارئ، لديه الجلد على الإصغاء، ومعه مجلة تقدم له الدعم الكامل، وهو يكتب منتقدا للأداء الأمريكي في العراق، وبسبب ذلك خسر اصدقاء امريكان كما قال.. متشائم من مستقبل أمريكا لدرجة أنه شبهها بالإمبراطورية العثمانية وأنها، أي أمريكا، متجهة نحو الاضمحلال.

رجل هذه حاله، يصعب تسديد التهم العربية التقليدية له بأنه «بوق» متصهين.

حينما سأله الشافعي حول انطباعه عن منطقة «الشرق الأوسط» بعد كل هذه الزيارات المتعمقة لها في خطوط النار وخلف خطوط النار، أجاب جورج: «بدأت أحس بالتعب من هذه المنطقة، وبدأت انظر إلى هذه المنطقة على أنها عبارة عن مكان به آيديولوجيات قوية، ونظم ديمقراطية ضعيفة، وتعبت من سماع نفس الكلام مرة بعد أخرى، ولذلك لم اكتب عن منطقة الشرق الأوسط منذ عامين أو ثلاثة». وتحدث أنه يحب الكتابة الآن عن افريقيا فهي حبه الأول، أي أنها احسن حالا من منطقتا، رغم كل علل القارة السمراء.

لم أجد أصدق من هذا الشعور الذي قاله هذا الصحافي المتأني حيال وضعنا، وهو الشعور الذي يعتري بعضنا حينما يرى نفسه يدور في حلقة مفرغة من الكلام عن واقعنا، دون فائدة ولا ثمرة.

اعرف كثرة من ألوان شتى من الناس، بكل مشاربهم صاروا يشعرون بهذه المشاعر، كل حسب تعبيره وزاويته التي يركز عليها، يقولون لك بكلام عفوي: لا فائدة يا فلان.. لماذا تكتب و«تتحمس؟!»، العرب لن يتغيروا، والدول لن تتعدل، والثقافة لن تتبدل، والكلام عليها لن يتحول، يقولون ذلك على إيقاع أغنية صباح فخري: يلا نعيد الزمن الأول!

جورج: أنت تعبت من ثلاث سنوات عرفت فيها منطقتنا محاولا التعمق فيها.. كم انت طيب.. جدا.. أكثر من اللازم!

حاول مرة أخرى، وإذا فهمتنا فليس بالضرورة أن ترتاح، يبقى لك مهمة أصعب هي في توصيل فكرتك عنا إلينا!

نحن لا نريد الفهم.. لأن «الحقيقة» وكشفها متعب كثيرا لنا، ولذلك سرعان ما تتهاوى شعارات «بدنا الحقيقة» كما حصل مع طيب الذكر 14 آذار في لبنان.

وسلامتك من التعب مستر جورج..

[email protected]