حرب الجواسيس وتوريط الآخرين

TT

اغتيال محمد المبحوح، أحد مؤسسي كتائب القسام وقيادي مجموعات العنف المسلح في حركة المقاومة الإسلامية حماس، في دبي، هو حلقة أخرى في مسلسل لا ينتهي منذ عقود، في الحرب الخفية الدائرة بين الإسرائيليين والمنظمات الفلسطينية.

فاختطاف منظمات فلسطينية إسرائيليين أو اغتيالهم، والعكس، سواء كان ذلك مبادرة أو ردا انتقاميا، ليس بجديد. فالعنف السري دائم، ولا يكاد يمر عام إلا ويتبادل الطرفان أكثر من عملية، لا يسمع الرأي العام إلا ببعضها.

الجديد في عملية دبي هو الملمح الابتكاري، وكأنك تقرأ رواية جاسوسية للمؤلف دون لي - كير: استخدام الأنثى لاصطياد الرجل بتنكرها، سواء في زي مثير، أو كموظفة فندق جذابة ليفتح الهدف باب غرفته، وتزوير جوازات سفر أشخاص حقيقيين وليسوا وهميين، وتعدد جنسيات تلك الجوازات، وكأن المؤلف يبتكر الجديد حتى لا يتهم بالتكرار.

والحرب السرية بين المنظمات الفلسطينية والموساد تعبر الحدود لتدور على أرض طرف ثالث، سواء كان متأثرا مباشرة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كالأردن ولبنان ومصر، أو لا ناقة له في هذا الخلاف الدموي ولا جمل، كقبرص، وفرنسا، وتونس، وتركيا، وبريطانيا، والإمارات. لكن الأمر هذه المرة يؤدي إلى أزمة دبلوماسية.

وزارة الخارجية هنا استدعت سفير إسرائيل في بلاط سانت جيمس، ليفسر استخدام جوازات سفر مزورة باسم أشخاص حقيقيين من رعايا التاج البريطاني المقيمين في إسرائيل، مما يشكل خطورة عليهم في المستقبل، ويعرقل حرية تنقلهم في مطارات العالم وموانيه، والزج ببريطانيا في الصراع على الرغم من أنها تبذل جهودا خارقة ليحل السلام بين الطرفين.

وحتى ساعة كتابة هذه السطور، لا توجد أدلة مادية دامغة تثبت تنفيذ الموساد للعملية، إلا أن تجمع الأدلة الظرفية، مع رفض إسرائيل «التعليق»، كعادتها في ظروف مشابهة، ومصلحتها المباشرة في اغتيال المبحوح، الذي دبر اغتيال إسرائيليين واختطافهم، يحرك أصبع الاتهام نحوها.

وربما قصد سرقة معلومات جوازات سفر بريطانيين مقيمين في إسرائيل بشكل متعمد، لإظهار أنه خطأ من الأنواع الذي لا تقع فيها الموساد أبدا، ومن ثم يبعد الشبهة عنها، حسب تفسير مسؤول مخابرات غربي سابق في المنطقة.

للأمانة التاريخية، هناك أطراف عربية وإسلامية، دول أو تيارات، من مصلحتها السياسة اختفاء أمثال المبحوح من الساحة.

هناك أطراف أضر المبحوح بمصالحها، وأخرى تستمر في عرقلة عملية السلام بأي ثمن، بتقدير أن حماس سترد على اغتيال المبحوح بعنف مضاد، مما يسرع من دوران دائرة العنف الجهنمية، ويزرع رمحا آخر في جسد السلام.

الاستراتيجية التي تنسف محاولات السلام، هي جزء من آيديولوجيا استمرار الحرب مع «غير المسلمين» وعدم مهادنتهم، وبالتالي تأجيج لهب الصراع، و« الغاية تبرر الوسيلة».

تكتيك الإسرائيليين في الاغتيالات وإنقاص مصادر الخطر عدديا، جزء من استراتيجية يحركها هاجس «البقاء»، وعقلية الحصار، واعتبار أي خطوة يتعذر فهمها خطوة لإلقاء إسرائيل في البحر. إسرائيل ترى في حماس امتدادا لموقف حزب الله، الذي يشاركها العقلية الانتحارية، كجر إسرائيل إلى حرب صيف 2006، بما نجم عنه من تدمير للبنية التحتية اللبنانية. فتدمير الذات هنا وسيلة بررها الهدف، مثل عمليات الأحزمة الناسفة الانتحارية، وبخاصة أن القادة لا يرسلون أولادهم بالأحزمة الناسفة، بل أولاد الآخرين. وإسرائيل ترى حزب الله امتدادا لإيران التي تمد الحزب بالسلاح، والمال الذي تعوض به الناس الذين تخربت بيوتهم، وبالآيديولوجيا المدمرة.

عقلية الحصار والاضطهاد والخوف من محرقة جديدة تجمع بين تهديد الانتحاريين من حماس، وتهديدات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، الذي لا تعترف بلاده بإسرائيل ولا بالهولوكوست، وترى في حماس، المدعومة من إيران أيضا، ومتجاهلة حجمها مقارنة بالترسانة العسكرية الإسرائيلية، تهديدا حيويا، أي تهديد لبقائها.

هذه الهواجس تجعل المحللين يشتبهون في الموساد كمخطط، وربما منفذ، لعملية دبي. فتكتيك تصعيد العمليات في الحرب السرية مع «العدو»، حماس، يحول طاقات الحركة وقدراتها وإمكاناتها إلى الدفاع بدلا من الهجوم، أي ينشغل قادة حماس وزعماؤها بحماية أنفسهم والاختفاء وتجنب الأخطار، والتفرق في دول أخرى، وهي أمور تتطلب طاقة وإمكانات بشرية ومادية كانت موجهة إلى تهديد الدولة اليهودية.

وبصرف النظر عن مدى فاعلية هذه النظرية، فإن خوض الطرفين الحرب السرية على أراضي الآخرين لا يسبب إحراجا ومشكلات دبلوماسية لهم فحسب، بل يهدد التوازن الأمني الداخلي ويرهق ميزانية هذه الدول، باستقطاع أجزاء من مخصصات التعليم والصحة والخدمات لتمويل الأمن، وبخاصة إذا ما وقعت هذه الأحداث في بلدان أدارت ظهرها للحروب، ووجهت طاقاتها إلى البناء والنمو، أو بلدان لم يكن لها أعداء، أو تخوض حروبا مع الجيران.

فاغتيال إسرائيل في الثمانينات لخليل الوزير في تونس، وضع أعباء على ميزانيتها كبلد بميزانية دفاع متواضع لا يحتاج إلى أساطيل وجيوش كبيرة، كذلك عمليات اغتيال الفلسطينيين في قبرص، وقت كانت تحاول إعادة التعمير عقب حرب التقسيم التركية.

محاولة اغتيال الزعيم الحماسي، خالد مشعل، بأوامر مباشرة من بي بي نتنياهو، أثناء رئاسته الأولى للوزارة عام 1998، أضرت بعلاقات بلاده مع الأردن، أكثر الجيران تأثيرا في مسألة السلام مع الفلسطينيين. ونتج عنها الإفراج عن زعماء لحماس - اعتذارا للأردن - ساعدوا الحركة على النمو، وجمع الأموال، وتخطيط المزيد من العمليات، أي لم تضر بعملية السلام وبالجيران الأردنيين فحسب، بل أضرت بالمصالح الإسرائيلية على المدى الطويل. كثير من المنظمات الفلسطينية، بدورها، لا تراعي مصالح البلدان الصديقة وسيادتها على أراضيها، حتى التي ساعدت الفلسطينيين من التيارات كافة، ومنها محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن في مطلع الثمانينات، ووضع قنبلة في سيارة إلى جانب السفارة الإسرائيلية، ونجاة سكان العمارة المجاورة كانت معجزة.

وكان الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، وضع الإمارات نفسها في موقف دبلوماسي حرج باختطاف الزعيم الفلسطيني الراحل، جويد الغصين، 1930 - 2008، من فندقه في أبو ظبي. وضع الفلسطينيون مصر في أحرج موقف مع المملكة الأردنية، التي تربطها بمصر علاقة تاريخية ومصالح مشتركة، عام 1971 باغتيالهم رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، 1919 - 1971، أمام فندق شيراتون الجيزة، وهو تصرف يحكم المؤرخون عليه بأنه أخرق، لا يصدقه عقل، بالأخذ في الاعتبار التضحيات الهائلة والمساعدات التي قدمتها الأمة المصرية ولا تزال تقدمها للفلسطينيين على مدى 62 عاما.

وحماس تكرر الخطأ بانتهاكها الحدود المصرية بتهريب الممنوعات عبرها بشكل بدأ صبر المصريين فيه في النفاد.

واستمرار الطرفين، إسرائيل وحماس، في تجاهل سيادة وأمن دول تعمل بدبلوماسيتها على التوصل إلى السلام بينهما، سيؤدي إلى أن تنفض هذه البلدان أياديها من المساعدة، ويدفع الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي الثمن فادحا.