توقيعات الساسة وشروحاتهم.. الملك فيصل نموذجا.. «دعوة للتوثيق»

TT

لا بد في مطلع هذه الورقة من تبيان أن المقصود بتوقيعات الساسة هو ما عُرف في الأدب العربي القديم بالتعليقات التي كان الخلفاء والأمراء والوزراء يكتبونها على ما يقدم إليهم من المخاطبات والمعاملات والشكاوى والعرائض، وهي شروحات تتميز بالبلاغة والإيجاز والسجع أحيانا، خَصصت لها كتب التراث حيزا من فصولها ورواية نماذج منها. ومن أمثلة تلك التوقيعات ما نقل عن هارون الرشيد مخاطبا عامله على خراسان: داو جرحك لا يتسع، ومثل توقيع جعفر بن يحيى في قضية محبوس: العدل أوثقه والتوبة تطلقه... وهكذا.

ولا نعرف فيما دُوّن من التاريخ الشفوي والمكتوب لقادة هذه البلاد أنه تطرق إلى هذه التوقيعات، مع أن بعضها يحمل من الحكم والتأثير والإيجاز والأهمية ما يستحق التوثيق، شأنه في ذلك شأن الأخبار والرسائل والتعليمات.

وكان الملك عبد العزيز، في خطاباته وتعليماته ومكاتباته، يملك ناصية البراعة في مثل هذه التوقيعات والشروحات والتعليقات على المراسلات الجارية بينه وبين مبعوثيه وعمّاله ووكلائه، أو بينه وبين المواطنين بعامة، غير أن شروحاته الموجزة المأثورة عنه لم تنل نصيبا كافيا من التدوين، ونلحظ في حياتنا العامة أن ملوك هذه البلاد، من بعده، يبدعون في كتابة التعليقات الموجزة أو في الإدلاء بها شفاهة، حتى إن البعض منهم قد يصدر جملة واحدة تلخّص توجيهاته دون حاجة إلى إفاضة في الشرح أو إطالة في التعبير، بل لعلنا نجد أن الواحد منهم يصدر عشرات التعليمات المماثلة في مناسبة استقبال أو توديع أو لقاء بالمواطنين والمراجعين، وعلى من يستقبل مثل هذه التوقيعات الشفوية المختصرة أن يفك رموزها، ويفهم مضمونها، ويستوعب مغزاها، ولا يستعيدها من مُصدِرِها. ويتراوح مغزى مثل هذه الشروحات والتعليقات بين إقرار قاعدة، أو استغراب منطق، أو استنكار إجراء، أو طلب تفاصيل، أو نحو ذلك.

ولا تتوقف أهمية رصد مثل هذه التعليقات الخاطفة، شفوية هي أو مكتوبة، على طرافتها، وسرعة البديهة في طرحها فحسب، لكن الأهمية تكمن في مدى ما تقرره من أحكام، أو تغرسه من مفاهيم، أو ترسله من معان، وفي ظني أن فحص هذه الرسائل الشفوية لا يقل في أهميّته عما اتجه إليه الباحثون مؤخرا من اهتمام بمضامين المخاطبات، ويكفي أن نرى كيف أن كتب الأدب والتاريخ في التراث العربي - كالعقد الفريد والكامل والأغاني - تزخر بأمثلة هذه التوقيعات والتعليقات، وتتحدث عن مدلولاتها البلاغية.

لن أطيل كثيرا في توضيح المقصود بهذه التوقيعات والشروحات في تراثنا العربي، لكن من يطلع على كتب السيرة النبوية الكريمة، وعلى الكتب التي تناولت ازدهار الأدب في عصور الخلافة وفي دواوين الأمويين والعباسيين وعند سلاطين الأندلس، سيلحظ مدى عناية المؤرخين السابقين بتدوينها وروايتها في القرون الماضية.

والواقع أنه يحمد لدارة الملك عبد العزيز بخاصة، وللمكتبات الوطنية بعامة، اهتمامها في العقود المتأخرة بتسجيل روايات التاريخ الشفوي التي قد تشتمل على شيء من هذه الشروحات والتوقيعات، إلا أن أحدا لم يُقدِم فيما سبق - على حد علمي - على تدوين تلك الروايات، التي قد تندثر وتختفي مع مضي الأعوام وتغيّر الرواة.

من هنا تأتي دعوة هذه الورقة لأن يشمل حفظ التاريخ الشفوي كل الطُّرَف والتعليقات والنوادر التي تصدر عن قادة هذه البلاد وعلمائها ورموزها الثقافية، قبل أن تبدأ تلك الروايات في الانقراض والخفوت أو التعرض للتحريف نقصا أو زيادة أو تغييرا في الإسناد، وتبدأ مع الأيام تفقد وهجها، بما تحمله من مضامين ومدلولات بليغة ومؤثرة، فضلا عن كونها أحد مصادر تاريخنا الوطني.

إن ما عنيته في مسألة الاختلاف في نسبة الروايات لأصحابها الحقيقيين، أضرب عليه مثلا بما ينقل عن الملك فيصل الذي حرر في حدود عام 1389هـ على معاملة معروضة عليه بشأن خلاف على حدود مزارع تقع على إحدى ضفتي وادي الرمة بالقصيم، فكان أن جرى الوادي في ذلك العام والمعاملة لا تزال قيد النظر، والاختلاف محتدم، فاتبع الوادي مجراه القديم وحسم الأمر بين المتنازعين، فما كان من الفيصل إلا أن شرح على المعاملة بقوله : «طبق الوادي صكوكه».

فهذه الحكمة التراثية ذات المدلول الفقهي تنسب للملك فيصل، وقد تكون وردت في أحكام الفقهاء القدامى، أو على ألسنة بعض القادة السابقين، إذ إننا كثيرا ما نسمعها بصيغ مختلفة منسوبة لعدد من مشايخ القرن الماضي، من أمثال الشيخ عبد الرحمن البواردي في شقراء، والشيخ صالح العثمان القاضي في عنيزة وغيرهما.

إن من شأن الاهتمام بتدوين تلك الروايات المتناقلة شعبيا أن نوثق نسبة هذه الأقوال إلى قائليها الحقيقيين، شفهية كانت أم تحريرية.

وكما سبق، فإنه من المعروف أن تلك التعليقات تختلف باختلاف موضوعاتها، وقد يترتب عليها وضع قواعد إدارية أو مواقف سياسية، وقد تحمل مضامين فقهية أو اجتماعية أو أدبية، وهي في الوقت نفسه، قد تكون مقتبسة من القرآن الكريم أو السنة المطهرة أو من عيون الشعر أو النثر، أو من الأمثال العربية والشعبية، أو جملا من قول من صدرت عنهم، أو استشهادات من أقوال غيرهم، ولعنا نتذكر - مثالا على ذلك - الجواب الذي بعثه الملك عبد العزيز على رسالة يوسف الفوزان وزيره المفوض في مصر - بعد أن قارب المائة عام من العمر - يخبر الملك فيها بأنه رزق مولودا، فكان أن علق بقوله سبحانه: «يحيي العظام وهي رميم». كاستشهاده بالمثل الشعبي المعروف : يرى الحاضر ما لا يرى الغائب، وذلك في خطاباته التي يبعثها لولاة الأقاليم لتفويضهم بالتصرف في بعض الأمور المحلية، حسب سلطاتهم التقديرية؛ لأنهم الأعرف بظروفها.

لقد اشتهر عن الملك فيصل أنه قد يرسل أحيانا - عبر توقيعاته وشروحاته - ما يقصد منه إيصال رسائل معينة إلى من خاطبه، وقد يحرف في جوابه الموضوع الرئيسي الوارد في خطاب المرسل.

ومن أمثلة ذلك ما روي عن رده على برقية تلقاها من السفير في مصر، إبراهيم السليمان العقيل، حول أمور ما كان الفيصل يرغب في سماعها منه، فلقد اكتفى الفيصل بأن أجابه على جزئية واحدة من جزئيات الرسالة وأغفل الباقي عن قصد طبعا، أما الرسالة الأبلغ فيما ينقل عنه من مواقف، فكانت تلك التي كان يكتبها رئيس ديوانه، عندما يروي - مثلا - بأن فيصلا قد اكتفى بهز رأسه، أو بأنه «لدى عرض الموضوع على النظر الكريم لم يوجّه بشيء».

فهذا النوع من المواقف التي تنسب إليه، كانت إيماءات تعبيرية رمزية، تؤدي مفهوما يغني عن الكتابة، وهنا يقع المرسِل في حيرة من أمره حيال ما يتوجب عليه اتخاذه، والحاذق من يفهم بأن مثل ذلك الموضوع ما كان ينبغي رفعه أصلا.

ومن الأساليب ذات المدلولات والخبرة في استقصاء المعلومات في مراسلات الفيصل مع بعض الجهات أنها قد تستدرج المرسل إلى الإفصاح عن معلومات إضافية كان ينبغي إرفاقها مع أساس المعاملة، أو ذكرها في حيثياتها، ويدخل في أسلوبه ما عرف عنه أحيانا بأنه قد يسترسل في طلب إيضاحات معينة إلى أن يفوت موعد المناسبة أو الموضوع الوارد في المعاملة الأساسية، فهو بهذا يتلافى إصدار توجيه بالرفض؛ لأنه لا يريد أن يحسب عليه ذلك، وكثيرا ما كان يتبع هذا الأسلوب إذا كان الأمر يتعلق بحضور مؤتمر لا يرغب التوجيه صراحة بعدم حضور أحد المسؤولين له.

وقد نقل لي أحد الوزراء في عهد الملك فيصل أنه - أي الوزير - حضر أحد المؤتمرات التي كانت ذات طبيعة تتطلب البقاء عدة أيام في المؤتمر، فكان أن أجابه الفيصل بقوله، أحطنا علما، ولكن لا تتأخروا عن مجلس الوزراء، في إشارة إلى أن مجلس الوزراء كان أهم من حضور المؤتمر المذكور، أو أنها كانت إيماءة إلى أن الوزير قد تأخر.

وقد تتضمن توقيعات الفيصل وشروحاته دعابات طريفة، فلقد خرج الشيخ صالح العباد ذات مرة واضعا غترته على فمه مستغرقا في الضحك، وكان وهو في طريق عودته من مكتب الملك إلى مكتبه يستعرض شروحات الفيصل على بعض المعاملات، ومن بينها معاملة رفعها محمد الفاسي يطلب مساواته بالمعاملة المالية بالطيب الساسي، فكان أن شرح الفيصل على المعاملة بقوله: يعامل الفاسي مثل الساسي، وكان الاثنان عضوين سابقين في مجلس الشورى القديم حل الأول فيهما محل الثاني.

ومن طرائف تعليقاته، ما روي عنه: أن حاجا هنديا فقد أمتعته، وكان يضعها في طاسة كبيرة، فكتب الحاج إلى فيصل يقول له: «إن الطاسة ضاعت»، فكان تعليقه: ألم يدر أن الطاسة ضايعة من زمان.

ويقال: إن أحد الوزراء المقربين من الملك فيصل أراد أن يتوسط في قضية فساد مالي، فكتب إلى الملك محاولا أن يقلل من خطأ أحد أطراف القضية، معللا ذلك بأنه شريك غير مباشر في سرقة المال العام، في حين أن جريمة غيره في السرقة كانت مباشرة، فكتب إليه الملك - بعد أن اشتم من الوساطة رائحة الإقليمية - يقول: أليسوا كلهم حرامية...!

ومن أقواله المأثورة، ما نُقل عنه في إحدى جلسات مجلس الوزراء، بعد أن تكرر دمار الطريق بين مكة المكرمة وجدة بفعل السيول، أنه قال: «اسألوا البدو»، وذلك في إشارة إلى عدم خبرة مهندسي الطرق بأخطار الأمطار ومسارات الأودية والشعاب.

واطلعت على شرح مفعم من الملك فيصل على خطاب كتبته الاستخبارات العامة في الثمانينات الهجرية، يتضمن وشاية بأحد الوزراء، الذي استقبل على أرض مطار الرياض زوجة والده قادمة من الشام، وسهّل عملية دخولها، لكن الاستخبارات أخطأت في إيراد صفة القرابة، فذكرت بأنها كانت حرم الوزير، فما كان من الفيصل إلا أن كتب على الخطاب: وهل فلانة زوجة فلان؟

ووصلت إلى ديوان الملك فيصل معاملة تتعلق بأحد موظفي الدولة، وحملت تفسيرا من ديوان الموظفين لأمر سابق من الملك فيصل، فشرح على المعاملة بقوله: «ومتى كان ديوان الموظفين مخولا بتفسير أوامرنا».

ولعل من أقسى اللذعات التي تنسب للملك فيصل، أنه في إحدى القمم العربية المبكرة، وكان حضرها زعيم عربي أسهب في كيل الشتائم للمملكة، فما كان من الفيصل بعد أن آلت إليه الكلمة إلا أن استهل حديثه بنصف بيت للمتنبي: «وإذا أتتك مذمّتي من ناقص»، فغصت القاعة بالتصفيق، ثم استمر يلقي كلمته.

ومن إجاباته الهادئة، التي تعكس ما عرف عنه من صبر وتحمّل وطول بال، أنه كان مرة في أوائل الثمانينات الهجرية (الستينات الميلادية) يتناول طعام العشاء مع المواطنين، وكان من عادته أن يطيل تقشير الفاكهة عقب الطعام، فانتظره قادة الجيش طويلا كي يبلغوه بقلق عن عدوان مصري يمني على نجران، فما كان منه إلا أن قال، بلهجة القائد المحنك، غير آبه بتحرشاتهم: وهل وصلوا حدود الرياض، أو ما معناه؟

ويذكر أنه سئل ذات مرة من أحد الصحافيين الغربيين عن صحة ما روي عنه من أن إسرائيل في جيب أمريكا، فكان رده: معاذ الله، إن ما قلته هو العكس.

ورفعت إليه مرة معاملة اشتم فيها تحريضا على إلغاء وظيفة إمام مسجد بناه أحد المحسنين في فناء منزله، صار مفتوحا للمصلين من جهة الشارع ومن جهة الفناء، وكانت الأوقاف تميّز بين المسجد العام والمسجد الخاص، فشرح على المعاملة بقوله: وهل منع أحد من الصلاة فيه، فكان أن عادت المعاملة بهذه الحجة الواضحة الدلالة.

ويذكر أن عددا من المشايخ، وطلبة العلم، تحدثوا عند لقائهم الأسبوعي به عما يحتويه التلفزيون من منوّعات، مما كانوا يعدونه خروجا على المألوف من القيم الاجتماعية، فكان أن اكتفى بالرد: «إننا لم نشاهد ما شاهدتموه».

وبعد:

وكما رأينا من الأمثلة السابقة، فإن توقيعات الساسة وشروحاتهم، فضلا عن بلاغة الإيجاز فيها، تحمل مضامين وتوجيهات إدارية لا تقل في أهميتها عما تحمله الخطب والخطابات، وهي إضاءات برع بعض القادة والسياسيين في صوغ عباراتها منطوقة أو مكتوبة، ووُهبوا فن الاختصار فيها، في موهبة يندر أن يجيدها الكثير من الإداريين.

وإذا كانت هذه الورقة قد قصرت في رواية نماذج أكثر من أقوال الفيصل المأثورة عنه، فلا أقل من أن تلفت الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بجمعها، وجمع أمثالها مما روي - متواترا ومثبتا - على ألسنة قادة هذه البلاد وتحريراتهم، فهي جزء من تاريخهم وفكرهم الإداري والسياسي، ولا تقل في أهميتها عما نحرص عليه من تدوين سيرهم.

ثم إن هذه النماذج، على قلّتها، تعكس شخصية الملك فيصل وأسلوبه في الإدارة، وهو الذي يتوقع من المسؤول أن يجتهد ويتصرف وفقا لما يمليه عليه ضميره، ولعلنا هنا نختم بالتذكير بمقولة ابنه الأمير خالد الذي التقى والده عند تعيينه أميرا لمنطقة عسير يريد منه التوجيه، فاكتفى بالرد عليه بأن يراقب «مخافة الله وإرضاء الضمير».

لم يكن صمت الملك فيصل عن الإجابة المستفيضة، أو عن الشرح الطويل، يمثل عجزا منه، بقدر ما كان يريد من المسؤول أن يتفهم مسؤولياته، وأن يتصرف وفقا لاجتهاده، وألا يرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة.

هكذا كان فيصل، رحمه الله، مدرسة إذا تحدّث، ومدرسة إذا صمت، ومدرسة إذا شرح أو وقّع.

* باحث وإعلامي سعودي