العراق: تجاوز المحاصصة بتجاوز التفتت

TT

ليس جديدا القول إن مستقبل العراق يعتمد إلى حد كبير على النتيجة التي ستنتهي إليها الانتخابات القادمة، فهي انتخابات مصيرية وما ستؤول إليه نتائجها وموقف الفرقاء منها والمعادلات التي ستنتج عنها، ستكون ذات أثر استراتيجي وملامح مصيرية. ربما لا يتفق مع هذا الرأي كثيرون ممن استطلعت آراءهم والذين لا يتوقعون تغيرا كبيرا في تركيبة الطبقة السياسية أو تحولا جذريا في الوضع الأمني أو اختراقا على صعيد الوضعين الاقتصادي والخدماتي، وهم ربما كانوا محقين، لكن ذلك لن يغير من أهمية واستراتيجية الانتخابات لأنها في الحقيقة، على الرغم من أن كل الأحزاب والمرشحين قد ملأوا برامجهم بعبارات طنانة عن تحسين الوضع المعيشي والخدمي والاقتصادي ومكافحة الفساد وتوفير السكن، إلخ، فإن هذه القضايا ليست هي محور الانتخابات مهما كانت النيات طيبة وسليمة، بل إن محور الانتخابات هو تحديد المسار المستقبلي للعراق والتعامل مع الملفات الكبرى غير المحلولة المتعلقة ببناء الدولة والنظام الجديدين، وتحديد الأحجام الحقيقية للكتل المتنافسة وأي نوع من الطروحات المتعلقة بمستقبل البلد وطبيعة نظامه يلقى استجابة ومصداقية أكبر لدى الناخبين.

من هنا أعتقد أن خيارات الناخب ينبغي أن تكون ذات طابع استراتيجي أيضا، أن تنظر إلى ما هو أبعد من الغد القريب، وأيا كانت الإحباطات وخيبات الأمل ومشاعر الغبن المبررة تماما، لا بد من إدراك أن نجاح الانتخابات وانتهاءها إلى تشكيل برلمان وحكومة أكثر تمثيلا وتجانسا وفاعلية هو البوابة الوحيدة المتاحة لمستقبل أفضل، لأن كل الخيارات الأخرى سيئة، إن لم تكن مرعبة. لذلك من أهم ما يجب أن ينظر إليه الناخبون أن تنتج أصواتهم برلمانا أقل فوضوية وأكثر انتظاما، وأن المدخل إلى ذلك هو تفضيل كتلة أكبر تستطيع أن تشكّل تحالفا حكوميا أكثر راحة وفاعلية بدلا من تفتيت البرلمان إلى مجموعة كتل لكل منها خلفيتها ومواقفها وآراؤها ومقاييسها للربح والخسارة، وبشكل سيتعسر معه إنتاج حكومة متجانسة وفعالة. إن اقتصار البرلمان القادم على كتل محدودة العدد وبأوزان كبيرة نسبيا سينهي بعضا من فوضى الساحة السياسية العراقية التي أنهكتها القراءات الآيديولوجية المتفاوتة ومشروعات الزعامة المتعددة وطغيان الجزئي والظرفي على الكلي والدائم، سيكون بإمكان كتلتين أن تتحالفا لإنتاج حكومة أكثر تجانسا وأقل تعددية في مراكز القوى وأوضح برنامجا. إن أي رئيس وزراء مقبل لن يكون مضطرا إلى الدخول في مساومة مع كل المجموعات وتقديم تنازل لكل من يستطيع أن يؤثر على الحجم البرلماني للحكومة، وينتهي به الأمر فاقدا أي سلطة فعلية غير السلطة البروتوكولية والأخلاقية على وزراء حكومته، بل وننتهي إلى ما نحن عليه الآن بوضع لا تعرف فيه مَن الحكومة ومَن المعارضة حيث لدى جميع الكتل تقريبا ممثلوها في الحكومة، لكن غالبية أعضاء البرلمان يتعاملون مع الحكومة من منطلق المعارض، ببساطة لأن الحكومة اختُزلت إلى رئيس الوزراء. ولأن العقلية الإبداعية للطبقة السياسية العراقية لم تتوصل بعد إلى كيفية تقسيم رئيس الوزراء بين المتحاصصين، كان عليها أن تقبل - ولو على مضض - وجود شخص يشغل المنصب بمفرده.

إن إنتاج وضع مشابه يعني إعادة إنتاج ذات الإشكاليات القائمة اليوم، بل وجعلها مؤسسة وشبه ثابتة وإغراقنا في أوضاع تشل فاعلية الدولة عبر تتابع حكومات غير مستقرة تتغير بتغير التحالفات بين المجموعات المتعددة، عند ذاك تتفتت إرادة الناخبين إلى إرادة كيانات لا يصالحها إلا وضع يحفظ هذا التفتت. إن انتخاب كتل كبيرة وتفويض أكبرها لتشكيل الحكومة سيخدم أيضا ظهور معارضة فاعلة وواضحة البرنامج والمعالم والقيادة، سيساعد ذلك على تفعيل المحاسبة، لا على أساس تسجيل النقاط، بل على أساس سعي المعارضة لتقييد تفرد الحكومة ولإبراز الثغرات في داخلها وبالتالي تقديم الرقيب الحقيقي الذي كان على البرلمان أن يكونه منذ البداية. أما التذرع بتمثيل المكونات فإن هذا التمثيل يعبَّر عنه بالبرلمان، المؤسسة المنتجة للحكومة، وعبر موقع داخل الحكومة أو داخل المعارضة في ظل نظام يتسمى بالاتحادي وتتوزع فيه السلطات بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية بما يوفر أكثر من مستوى للتمثيل.

إن مصيرية الانتخابات القادمة تتطلب خيارات عقلانية من الناخبين لا تتعلق فقط بمن نفضله من المرشحين، بل أي منهم سيكون في وضع للتأثير والتعبير بفاعلية عن الحد المشترك الأدنى لمجموع ناخبيه. مصيرية الانتخابات القادمة يدركها الجميع وفي مقدمتهم جوار العراق، وليس سرا القول إن هذا الجوار لا يمارس الترقب لما ستؤول إليه الانتخابات فقط بل إنه وعبر حلفائه يسعى للتأثير، وهناك من دول الجوار من لم يُخفِ أن لديه «فيتو» على هذا أو ذاك، واللاعب الأميركي لم يُخفِ وعلى لسان سفيره تفضيلات معينة حول توجه الحكومة المقبلة، ولذلك أفضل طريقة لمخاطبة الجوار وجميع الفاعلين الدوليين هي إنتاج حكومة ذات تفويض واسع تتكئ عليه لمخاطبة الخارج بلا خشية من طعنة ما في الظهر من شركاء الداخل، حكومة مستقرة بشكل يفرض على الخارج قبول الأمر الواقع أو في الأقل التعايش معه.