نهاية أوسلو.. وبداية مسار جديد

TT

انتهت أوسلو كعملية سياسية.. وانتهت خطة خارطة الطريق، كمحاولة دولية لإنقاذ أوسلو، غير أن نهاية هذين العنوانين الكبيرين، لا تعني نهاية فكرة السلام، مثلما لا تعني إطلاقا فتح الأبواب للنقيض البديهي، الذي هو الحرب.

والحرب التي أعنيها، ليست سلسلة العمليات العسكرية على غزة وجنوب لبنان، وأحيانا على نطاق أضيق في الضفة الغربية، وإنما على صعيد أشمل، بمعنى انفتاح جبهات كاملة، دافعها ومداها متصل بالقضية الفلسطينية أو بالصراع العربي الإسرائيلي.

لقد ظلت أوسلو على قيد الحياة، حين كانت ضرورة لإبقاء فرص السلام والاستقرار قائمة على المسار الفلسطيني وحده، أما خطة خارطة الطريق فظلت مصطلحا متداولا لجهود إبقاء الفرص، إلا أنها انتهت عمليا حين قمنا بكل ما علينا من واجبات، وقامت إسرائيل بكل ما عليها من تنصل، ونهاية أوسلو وخطة خارطة الطريق، قد تكون كارثية إذا ما ظلت هي الإطار الوحيد للجهد السياسي المبذول تحت عنوان السلام، إلا أنها ليست كذلك، إذا ما طرح بديل واقعي يستفيد من ثغرات أوسلو وخطة خارطة الطريق، لمصلحة ترتيبات أكثر رسوخا وعملية، والذي لم يجرب بعد هو الحل الإقليمي الشامل الذي يستحق جهدا جديدا وصريحا تقوده الرباعية ذاتها، صاحبة الوصاية على أوسلو، وما تلاها من ترتيبات ومبادرات تنطلق من الأرضية ذاتها.

إن العمل السياسي في أي مكان، وفي الشرق الأوسط بالذات، لا يقوم على أساس خلاصاته المحددة فقط، فإن أفضى إلى تحقيق كامل للأهداف المنشودة فإن كل شيء يسير على ما يرام، وإن لم تتحقق هذه الأهداف فإن التجربة فاشلة من أساسها. وساعتئذ إما أن نذهب إلى جمود محقق لا أحد يعرف كم من الظواهر المرضية ستنبت في أرضه، وإما أن نأخذ ما أنجز من جزئيات ما تزال على قيد الحياة لجمعها والانطلاق منها نحو تجربة جديدة، وإن لم تفض إلى الحل المنشود في فترة محددة فهي توفر ميزة تفادي الفراغ وإبقاء الحركة السياسية نشطة وفعالة.. فما الذي يمكن الإفادة منه من أجل المحاولة الجديدة؟.

أولا: المسارات.. بعد خروج المسارين الأردني والمصري من دائرة الاستعصاء التفاوضي، إلى دائرة الحل البارد، بقي أمامنا ثلاثة مسارات.. مهما بلغ سوء وضعها على صعيد مبدأ السلام والمفاوضات، إلا أنه أفضل بكثير مما كانت الأمور عليه قبل مؤتمر مدريد، لقد تراجعت فكرة الحرب التقليدية، وعمادها البديهي سورية، التي لم تتوصل بعد إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، وحلت محلها الحروب المحدودة المسيطر على نتائجها بالمطلق، كحرب غزة، وحرب جنوب لبنان، والانتفاضة المسلحة، المسماة بالثانية.

وإذا ما قرأنا خلاصة المواقف السياسية لسورية وحزب الله وحماس، فسنجد أن فكرة السلام نظريا وعمليا غير مستبعدة، وأن هنالك شروطا إن تسنى تحقيق الجزء الأهم منها فساعتئذ يمكن القول إن الوضع جدير بالمحاولة.

لقد اختلفت سورية على مئات الأمتار، وهي محقة في سعيها لاستعادة كل شبر من أرضها، فإما أن تسامح في هذه الأمتار.. لتكسب مزايا سلام وتنمية وتقدم ورفاه، أو تتنازل إسرائيل عما ليس لها أساسا لتكسب هدوءا دائما على الجبهة السورية التي، وإن لم تتحرك.. إلا أنها تظل جاهزة على الدوام لإنتاج عوامل قلق يبعد النوم العميق عن عيون الإسرائيليين جميعا.

وفي حساب الربح والخسارة، فيما يتصل بالجبهة السورية، فإن مئات الأمتار التي منعت اتفاقا مع سورية، لا تعني شيئا أمام انتهاء التهديد العسكري السوري، ومعه اللبناني، وقبله وبعده قطع الصلة المبررة بين سورية وإيران، التي لن يكون بوسعها بعد إقرار السلام مع سورية أن تستثمر في المنطقة بالأريحية ذاتها التي تستثمر بها حق الجهاد كفرض عين على كل مسلم ومسلمة من طهران حتى بوابة فاطمة.

وإذا ما حلت العقدة السورية، فساعتئذ ستحل عقد كثيرة على نحو تلقائي. وهذا الذي نتحدث عنه ليس خيالا، بدليل أن المحادثات القديمة لامسته وأوشكت على إغلاق ملفه.

ثانيا: الفلسطينيون.. لم يعد ممكنا استمرار المسار الفلسطيني في المراوحة بين شروط مستحيلة وشروط مضادة غير منطقية، فلم يعد باستطاعة الفلسطينيين مواصلة شوط التفاوض وفق أدبيات أوسلو وخطة خارطة الطريق، كما لم يعد منطقيا، تواصل الجهد الفلسطيني، على طريقة تحصيل الديون المعدومة، من خصم ينجح في الإفلات من الاستحقاقات، ونجح كذلك في تحويل الديون التي عليه إلى مستحقات بديهية له.

إذن.. فإن فكرة الحل الإقليمي، تظل هي المخرج الأكثر واقعية من الاستعصاء المستحيل الذي نراه ونتوغل فيه، وليست مثالبه فقط إضاعة الوقت، وإنما توفير وقت ثمين لكل من يرغب في استثمار الفوضى، وخلط الأوراق وجعل الحل السياسي المتاح مستحيلا.

وإلى أن نصل إلى هذه الصيغة، التي هي ليست بالمستحيلة أساسا، فإن بناء أساسات الدولة الفلسطينية تظل هي الأجدى، بل إنها من قبيل تجهيز العربة إلى حين توفر الحصان السياسي الذي يجرها. والمقصود بالحصان السياسي هنا هي الالتزامات الإسرائيلية والدولية والإقليمية تجاه الدولة الوليدة، التي خرجت من عنق زجاجة الاستحالة الإسرائيلية لتدخل طور الموافقة المبدئية والاختلاف على المواصفات.

لقد كنت وما زلت من أكثر الداعمين لفكرة السلام، ومن أكثر الملتزمين بها، نظرا لرؤيتي المبكرة دائما للبديل. فعندنا ليست بديل السلام حرب سهلة، وليس بديل الاستعصاء التفاوضي حرد ويأس وتخبط تحت شعارات مجيدة. إن بديل السلام هو صراع نحن فيه الطرف الأضعف، وبديل الاستعصاء التفاوضي، ابتعاد عن الحل أو تراجع إلى نقاط البدايات المأساوية. إذن، فإن نعي أوسلو لم يعد بالأمر الكارثي، وإطفاء الأنوار عن خطة خارطة الطريق هو ما يضيء أنوارا جديدة على مسارات أكثر واقعية وفاعلية.

لقد تحمسنا لأوسلو وكنا على حق حين راهنا على إنجازاتها المحدودة التي كان بديلها اللا - إنجاز. وتحمسنا لخطة خارطة الطريق، حين كانت اجتهادا لعله يفضي إلى إنقاذ آمالنا وأحلامنا.. وحين نفكر في صيغة جديدة، فذلك لا يعني أننا نحول عملنا السياسي إلى حقل تجارب، بل نذهب به إلى القاعدة الذهبية في العمل السياسي، وأعني هنا طرق كل الأبواب من أجل بلوغ الهدف، وليس اللعب على طريقة اليانصيب، إما ربحا محققا أو خسارة مدمرة.

إنني، وأنا أراقب الحركة الأميركية بشأننا، أرى مقدمات قريبة من هذا الطرح، وكلما وسع السيناتور ميتشل دائرة الحركة، لامس بديلا معقولا كان مهملا فيما مضى، إلا أنه هناك أمر حتمي لا بد من أن تعطيه الإدارة الأميركية ومعها أطراف الرباعية جهدا استثنائيا، وهو إسرائيل.

أعرف أن إسرائيل وأميركا تكرهان كلمة الضغط، وأحيانا الإقناع، إلا أن هذه الكراهية المشتركة ينبغي أن لا تحجب حاجتنا لإبداع وسيلة تجعل من مزايا السلام الشرق أوسطي، أكبر بكثير من الاحتفاظ بمزارع شبعا وضفاف طبريا.. وفيتو على دولة فلسطينية حقيقية، وصلنا في كامب ديفيد إلى حد الحديث عما يزيد عن ستة وتسعين بالمائة من مساحتها.