حروب المخابرات: الهُواة في مصيدة «الزعران»

TT

تغطي خفة ظل مايسترو الديبلوماسية السورية وليد المعلم (72 سنة) على وزنه الثقيل الذي يتجاوز 110 كيلوغرامات. أدخل المعلم أخيرا مفردة جديدة على قاموس الديبلوماسية، عندما وصف الجنرالات والساسة الإسرائيليين بأنهم «زعران» في منطقة يملؤون أجواءها بالتصريحات والتهديدات الاستفزازية بالحروب والويل والدمار. كلمة «أَزْعَرْ» تعني الولد الشقي أو الشرير. وهي كلمة فصحى، وليست عامية كما يظن مستعملوها اللبنانيون والسوريون. الكلمة مشتقة من الفعل الثلاثي «زَعِرَ» بمعني «ساء خلقه وقلََّ خيره».

انطبق الوصف على الفعل، بانفجار الورطة المخابراتية التي أوقعت حكومة بنيامين نتنياهو نفسها بها إقليمياً ودولياً، بعد إقدامها على خنق المخابراتي الحماسي محمود المبحوح في فندق بإمارة دبي في شهر يناير الماضي. العملية، في أسلوبها وملابساتها، لا يمكن وصفها إلا بـ«الزعرنة» المدانة، لا عربياً فحسب، وإنما أيضا من دول أوروبية متعاطفة مع إسرائيل، أو صديقة لها.

الإمارة الصغيرة المسالمة الحريصة على أمنها وسلامة مواطنيها والمقيمين فيها، تمكنت من إحراج إسرائيل أمام العالم كله. بل أحرجت دولا كبرى، كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا وأميركا، بحيث لم تعرف ماذا تفعل بالولد «الأزعر» الذي يعيث قتلا وتدميرا في المنطقة، وفسادا في العالم.

هذه الدول لم تذرف دموعا على المبحوح. فهو في تصنيفها لا يخرج عن كونه مسؤولا مخابراتيا في منظمة «إرهابية» متمردة على السلطة الفلسطينية الشرعية، ويتحرك في المنطقة الرمادية، أشبه بتجار المخابرات الإسرائيليين المتقاعدين الذين يسوّقون الأسلحة المحرمة دوليا.

«زعرنة» المخابرات الإسرائيلية تثير قلق المخابرات السورية. سورية بشار تعرف أنها تواجه حربا مخابراتية تشنها الأجهزة الإسرائيلية، منذ اغتيال عماد مغنية رجل حزب الله المخابراتي المرتبط بالمخابرات الإيرانية، في دمشق عام 2008. حدث تصعيد في هذه الحرب، منذ عودة نتنياهو إلى الحكم في العام الماضي. جرت عمليتا تفجير لباصين يحملان إيرانيين (قيل إنهم عسكريون ومخابراتيون) متوجهين إلى ضاحية السيدة زينب، حيث مقام لها في ظاهر دمشق. اقتضت العمليتان إجراء تغييرات عسكرية وأمنية، تَوَقِّياً لاحتمال وجود خلايا مخابراتية تعمل لحساب إسرائيل.

غير أن خنق المبحوح بالذات، فرض إجراء تحقيقات سورية شملت مسؤولين كبارا في منظمتي حماس وفتح مقيمين في سورية، وبعضهم كان مرافقا للمبحوح في نشاطاته. وللمخابرات السورية فرع فلسطيني يعتبر من أقوى أجهزتها. كذلك ساعد السوريون، بشكل وآخر، أجهزة حزب الله الأمنية والمخابرات اللبنانية، في كشف عدد لا بأس به، من خلايا كثيرة تعمل لحساب إسرائيل في لبنان.

لا شك أن مخابرات عريقة ومتمرسة، كالمخابرات السورية، توقفت طويلا عند تفاصيل عملية المبحوح. بدا واضحا أن جهاز الموساد حصل مسبقا على معلومات دقيقة، عن اعتزام مروره بالخليج، ربما في طريقه إلى إيران. هذه المعلومات وفرت الوقت الكافي للحصول على «جوازات سفر» حقيقية غير مزيفة، من إسرائيليين (ينفون علمهم الآن) يحملون جنسيات مزدوجة إسرائيلية/ أوروبية.

اغتيال المبحوح عملية ناجحة من العمليات المركزة التي تميزت بها، غالبا، المخابرات الإسرائيلية، بعدما تمكن اللواء مئير داغان من تنشيط الموساد، إثر عمليات فاشلة مُنِيَ بها في التسعينات. آرييل شارون هو الذي أسند إلى داغان إدارة الموساد (2002).

تلقى داغان ثناءً كثيرا، شعبيا وإعلاميا، خلال السنوات القليلة الماضية. غير أن النقد الموجه الآن إلى الموساد عموما، وداغان خصوصا، أنهما ينامان على «أمجاد» قديمة. داغان نفسه «67 سنة» من الجيل المخابراتي القديم، غير القادر على إدراك التحولات الفنية والتقنية المذهلة التي طرأت على العمل المخابراتي، سيّما في معدات الرقابة المسموعة والمرئية التي أوقعت في دبي رجاله الأحد عشر.

بريطانيا وفرنسا وألمانيا التي تقيم تعاونا أمنيا مع إسرائيل، تشعر بحرج كبير أمام الرأي العام العالمي والأوروبي، بعد عملية خنق المبحوح. بلا احتراز. بلا مبالاة. استخدم نتنياهو وداغان جوازات سفر أوروبية، بشكل بات يثير شكوك مخابرات عربية كثيرة تقيم تعاونا مع هذه الدول، بخصوص مكافحة الإرهاب.

لكن إذا كانت هواية الارتجال تميز العمل المخابراتي الفلسطيني، سواء عند فتح، أو عند حماس التي سمحت للمبحوح أن يسافر وحيدا ليقع في مصيدة «زعران» محترفين، فكيف يسهو بال الموساد عن استدراك هذه «النواقص» التقنية الجديدة؟ التساؤل يعيدني إلى مراجعة سريعة لتاريخ العمل المخابراتي اليهودي والإسرائيلي.

التجسس حرفة يهودية ماكرة، تم صقلها مع نشوء الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر. كانت منظمة «عزرا» النواة الأولى. غير أن المؤسس الحقيقي كان دافيد بن غوريون الذي شكل خلية محترفة في صميم قوة النخبة الخاصة (بالماخ). وضع بن غوريون «وحدة الفجر» في خدمة القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية. كان تلميذاه، شمون بيريس وموشي دايان في طليعة القوات البريطانية التي طردت قوات فيشي الفرنسية من سورية ولبنان في أوائل الأربعينات. ويقال إن دايان فقد إحدى عينيه برصاصة تلقاها في البقاع الغربي بلبنان.

بعد الحرب، استخدم بن غوريون «وحدة الفجر» في قتل واغتيال العرب. بعد قيام دولة إسرائيل، ألغى بن غوريون البالماخ، وشكل جهازي المخابرات: الموساد للعمل الخارجي. وشين بيت للعمل الداخلي. لكن آرييل شارون هو الذي يعتبر العراب الحقيقي للمخابرات الإسرائيلية. فقد ملأها برجاله. من أمثال يوفال ديسكن. إهود باراك. مئير داغان. وحدد لها هدفا نهائيا: التصفية الجسدية للعرب العاملين ضد الدولة اليهودية.

عمل داغان طوال حياته المخابراتية مع شارون، في تصفية فدائيي فتح في غزة بالسبعينات. وفى حرب لبنان (1982) التي قتل فيها الإسرائيليون عشرين ألف لبناني وفلسطيني وسوري. كانت الثقة مطلقة بداغان، إلى درجة أنه أدار حملة شارون الانتخابية التي أوصلته إلى الحكم في العقد الجديد. تمجيد إسرائيل لداغان وصل إلى اعتباره رجل عام 2009 «المبدع» الذي كانت هواية شارون أن يشاهده، وهو يصفي الفلسطينيين.

داغان لم يكد يقدم رفيق الحسيني مدير مكتب محمود عباس عاريا، على شاشة التليفزيون الإسرائيلي، حتى قدمته عدسات دبي عاريا مفضوحا هو ونتنياهو (الذي يفترض أن يكون قد منحه أمر القيام بخنق المبحوح) على شاشات العالم.

النقد الآن موجه لنتنياهو الذي لم يعتبر من الفشل في محاولة قتل خالد مشعل (1997) في الأردن.

الملك الراحل الحسين أنقذ شيخ حماس، بإجبار نتنياهو على تقديم اللقاح المضاد للسم، والإفراج عن أحمد ياسين شيخ مشايخ حماس. بعد خنق المبحوح، جاء الفرنسيون والأميركيون لتهدئة خواطر ومخاوف اللبنانيين والسوريين، من تهديدات واستفزازات «الزعران» ولتجديد الوعد للفلسطينيين بدولة مستقلة خلال عامين.

هل يستقيل داغان؟ هل يتحرر نتنياهو وباراك من عقدة «العمليات القذرة»؟ ربما لن يتغيرا، إذا لم تتغير أميركا. تعهدت أميركا بعدم ممارسة الاغتيال الفردي (1976). تمارس اليوم عمليات الاغتيال الجماعي من الجو، الأسهل من الخنق الوغد في الغرف المظلمة.

هل تتغير حماس؟ مشعل يطالبها بـ«الإبداع» في الانتقام. دوامة القتل سوف تستمر، طالما أن الثأر أسهل بكثير من إعادة إعمار غزة، وبناء الاقتصاد كأحد أسس المقاومة، لدى شعب محاصر بدوامة القتل، والقتل المضاد.