اغتيال المبحوح.. رسالتان مختلفتان

TT

في أي مكان من العالم، لا يمكن ضمان عدم وقوع جريمة لشخص مستهدف من دون تحضيرات مسبقة. وعملية اغتيال المبحوح تندرج تحت هذا السقف، وما حققه أمن دبي من نتائج في البحث لا يعكس قدرة فنية فحسب، بل يعكس كفاءة في المقارنة والتحليل للوصول إلى خلاصة قلما وصلت إليها أجهزة بهذه السرعة. ففي عمليات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) مثلا، جرى تركيز البحث الأولي على الطائرات التي هوجمت بها الأهداف. ومن الطبيعي أن يتم التعرف على الإرهابيين بجرد سريع لأسماء المسافرين عليها، لا يحتاج لأكثر من بضع ساعات. أما في دبي فقد تطلب البحث مقارنة مئات آلاف الصور، ولعدم وجود قاعدة معلومات عن أسماء أو صور المنفذين، يصبح من غير الممكن الاعتماد على البرمجة الإلكترونية، ولاختلاف المظاهر الشخصية بين وقت الوصول إلى المطار ووقت التنفيذ.

الدلائل المتداولة حتى الآن توجه الاتهام إلى جهاز الموساد الإسرائيلي، فالاغتيال لم يكن جريمة عادية. وكالعادة فإن أجهزة المخابرات التي لها ممارسات من هذا النوع لا تتحدث عما تقوم به إلا بتسريبات خفيفة، وربما بعد فترة طويلة.

الحماية الفردية لا يمكن تأمينها إلا بأربعة عناصر أساسية، هي: منع الاختراقات بغلق الثغرات، وإحداث اختراقات في الأجهزة المقابلة، وقراءة النوايا، وتحليل نتف المعلومات الممكن الحصول عليها. أو على الأقل اتخاذ تدابير على أسس افتراضية تشمل تأمين حماية نسبية ولو غير مسلحة، والشفافية في التعامل مع الأجهزة الأمنية عند السفر خارج منطقة الحماية. ومن الواضح عدم مراعاة هذه العناصر من قبل حركة حماس، أو وقوع بعضها خارج قدراتها، وهو أمر متوقع في ضوء التفاوت في إمكانات الطرفين.

وعندما يكون الوضع بهذه الصورة، فإنه يتطلب مراجعة المعطيات والمواقف، ومنها الخلافات السياسية والشخصية. وبقدر ما عانى الفلسطينيون، فإنهم دللوا على تمسكهم بخلافاتهم. وكلما تحولت الخلافات إلى أزمات ومسألة مصير تتاح فرص التعاطي السلبي على طريقة إيذاء كل طرف للآخر حتى ضمن المنظمة الواحدة. وهذا يفرض مراجعة المواقف والسياسات والنهج المتبع.

أول الدروس التي ينبغي استخلاصها بعيدا عن التشنج والمكابرة، هو وجود اختراقات إسرائيلية عميقة في هياكل المنظمات الفلسطينية لم يستطع الفلسطينيون غلق منافذها. وما يعزز هذا التصور ما قاله قائد شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان عن التوصل بعد الحادث إلى حصول متابعات سابقة للمبحوح من قبل بعض منفذي العملية.

تتميز المخابرات الإسرائيلية بوجود وحدة عمليات خاصة في صلب تنظيمها، لأنه من غير الممكن التعويل على مرتزقة للقيام بمثل هذه المهمات. وقد نفذت عشرات العمليات المهمة، من أبرزها عملية تحرير الرهائن في مطار عينتيبه منتصف السبعينات. والتوغل داخل الأراضي العراقية، ووضع أجهزة استراق على خط الاتصالات المحوري للقوة الجوية وتلغيمه، مما أدى إلى مقتل عدد من ضباط الاستخبارات عند محاولتهم تفكيك الأجهزة بعد فترة من عملها. الطريقة التي استخدمت فيها جوازات مزورة تعتمد حقائق معينة من جوازات أصلية تجعل كشفها أكثر صعوبة، خصوصا إذا ما وقف وراءها جهاز يمتلك التكنولوجيا والمعلومات معا، وعندما لا تتوافر لدى البلد المستهدف العمل في ساحته قاعدة معلومات محددة عن أشخاص معينين فإن كشف التزوير يزداد تعقيدا.

إسرائيليا. صحيح أن الموساد أثبت مرة أخرى قدرة عالية على الاختراق والمتابعة وتمكُّن المنفذين من تحقيق الهدف المحدد لهم، إلا أن العملية فشلت فنيا في كتمان مرحلة ما بعد التنفيذ، وأحرجت دولا غربية تسعى لحلحلة عملية السلام، وأثبت المخططون فشلا في تقدير كفاءة أمن الإمارات، وسجل أصحاب القرار تهورا يتناقض مع تغيير النغمة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

أما إماراتيا، فالعملية لا تمثل خرقا وفق كل الحسابات المنطقية، بل يعد كشف خيوطها بهذه السرعة نجاحا أمنيا مميزا لأمن الإمارات العربية عموما ودبي تحديدا، وجهت رسالة قوية إلى الجهات الخارجية، التي قد تخطط لاستهداف الأمن الإماراتي ومحاولات تحويل الإمارات إلى ملعب صراعات تصفوية، مفادها «إنكم قد تستطيعون القيام بعمل معين إلا أنكم لستم أكثر براعة من فريق اغتيال المبحوح». وبالتالي يتحمل كل مسؤولية فعله. وعززت ثقة العالم بقدرة الأمن الإماراتي.

ويبدو أن الفريق ضاحي كان واثقا من عناصر القدرة الفنية لأجهزة الأمن الوطني، عندما لوح العام الماضي بالقدرة على زرع آلاف الخلايا في البلد الذي يسعى إلى زرع خلايا في بلاده. وكان المقصود بذلك إيران.

الإمارات وغيرها من الدول، ليست قادرة ولا مسؤولة عن سلامة أشخاص مستهدفين، في حال عدم إشعارها مسبقا بالمعلومات اللازمة عن الأشخاص ومهماتهم، وهذا يتطلب تنسيقا وتفاهما وخطا سياسيا متناغما.