المسلمون في الغرب: بين الاندماج والتعارض

TT

مع سقوط غرناطة، انحسر الوجود الإسلامي عن القسم الأكبر من أوروبا الغربية. ولكن نشوء السلطنة العثمانية وامتداد فتوحاتها وحكمها غربا أقام في جنوبها وشرقها وجودا بشريا ودينيا إسلاميا ما زال قائما حتى اليوم، في البوسنة وكوسوفو وألبانيا، وغيرها. وفي القرن التاسع عشر وإثر استعمار بعض الدول الأوروبية، كفرنسا وبريطانيا على الأخص، لدول وشعوب عربية وإسلامية في أفريقيا وآسيا، وإدخال أعداد كبيرة من أبنائها في قواتها المسلحة، من سنغاليين وهنود مسلمين ومغاربة، راح عدد المسلمين المقيمين في أوروبا الغربية يتزايد، ولكن دون أن يبلغ حجما ملحوظا. ويجب انتظار النصف الثاني من القرن العشرين، وافتقار الدول العربية والإسلامية المستقلة إلى فرص عمل، وحاجة الدول الأوروبية الخارجة من الحرب إلى أيد عاملة، لنرى هجرة واسعة من دول المغرب خاصة وتركيا والدول الإسلامية عموما إلى أوروبا، وليصبح «الوجود الإسلامي» فيها ملموسا. وعندما سمح للعمال العرب والمسلمين المقيمين باستحضار عائلاتهم والاستفادة من كسب الجنسية لأولادهم الذين يولدون على أرض أوروبية، تدفقت موجات الهجرة من كافة أنحاء العالمين العربي والإسلامي إلى الغرب الأوروبي، وأصبحت الجاليات الإسلامية تعد بالملايين بعد أن كانت في مطلع القرن العشرين تعد بعشرات الآلاف.

وكان من شأن ذلك نشوء مشاكل اجتماعية جديدة على المجتمعات الأوروبية. مشكلة سكنية عولجت بإقامة مساكن شعبية لائقة نوعا ما للعمال في ضواحي المدن. ومشكلة دينية تتعلق بتمكين المسلمين المقيمين من ممارسة فروضهم الدينية. وفي الواقع لم تكن القوانين الأوروبية، أو علمانية الدولة، تقف في وجه ممارسة المسلم لدينه. بل راحت المساجد ترتفع في معظم الدول الأوروبية.

صحيح أن «الشكوى» من تحول ضواحي المدن الفرنسية، مثلا، إلى أحياء مغربية أو أفريقية أو تركية، ومن بعض الممارسات التقليدية، كذبح الخرفان في العيد، أو شغب الأجيال الطالعة في هذه الأحياء، بدأت تتردد منذ السبعينات من القرن العشرين، ولكنها كانت شكاوى محصورة ببعض الساسة والأحزاب اليمينية. وصحيح، أيضا، أن الشركات والمؤسسات، في فرنسا أو غيرها، كانت تتردد في توظيف مسلمين من حاملي الجنسية الفرنسية، أو تأجيرهم سكنا. ولكن القوانين الفرنسية كانت تعاقب على التمييز العنصري، إذا ثبتت ممارسته، وأن قسما كبيرا من الرأي العام الأوروبي كان يدافع عن «حقوق الإنسان» المقيم على أرض الوطن أيا كانت عقيدته أو لون بشرته.

غير أن الأمور راحت تتغير ابتداء من الثمانينات، إثر قيام الثورة الإيرانية وصعود الحركات الأصولية الإسلامية، الدينية منها والسياسية، وامتدادها في أوساط الجاليات الإسلامية في الدول الأوروبية، ووقوع عدد من أعمال العنف والإرهاب فيها، أقدمت عليها أنظمة أو جماعات عربية وإسلامية، من قبيل «تصفية حسابات» أو خلافات سياسية مع هذه الدول. في البداية رحبت السلطات في بعض الدول الأوروبية بالدعوة والدعاة الإسلاميين اعتقادا منها بأن «التدين» يصرف الشباب المسلم العاطل عن العمل أو المهمش عن الجنوح نحو المخدرات والعنف. ولكن بعض الدعاة شطوا في توجيهاتهم وتحولوا إلى أصوليين أو «جهاديين» محرضين على الغرب وثقافته. وجاءت عملية 11 سبتمبر (أيلول) وتفجيرات لندن ومدريد وباريس وحوادث خطف الطائرات واغتيال أشخاص على يد تنظيم القاعدة وتنظيمات «جهادية» أخرى، لتولد في نفوس قسم كبير من الشعوب الأوروبية والغربية شعورا بالخوف من الوجود البشري والعقائدي الإسلامي في ديارها، ولتضاعف من حساسية الرأي العام إزاء مظاهر أو مميزات هذا الوجود، كبناء المساجد أو رفع المآذن أو لبس الحجاب في المدارس وارتداء «البرقع» الأفغاني في الأماكن العامة، والثوب الرجالي الأبيض وإطلاق اللحى.

لقد دخلت قضية، أو بالأحرى مشاكل، الوجود الإسلامي في الغرب، مؤخرا، مرحلة جديدة. وما قضية «البرقع» في فرنسا أو «المآذن» في سويسرا و«الأحوال الشخصية» في بريطانيا، إلا القسم الظاهر من «جبل الثلج» الذي يهدد علاقات الجاليات الإسلامية بالحكومات والمجتمعات الأوروبية. التي باتت موضوعا تتناوله وسائل الإعلام الغربية يوميا. لا سيما وأن الدول الغربية تخوض حربا مكشوفة في أفغانستان وباكستان والعراق والصومال واليمن على «الإرهاب الإسلاموي»، يصورها الإسلامويون بأنها حرب على الإسلام والمسلمين ويتخذون منها حجة أو ذريعة لتحريض الجاليات المسلمة العائشة في الغرب على «الصليبيين الجدد»، أي أبناء الدول التي يعيشون فيها. ولا ننسى نفخ وسائل الإعلام الغربية، المتعاطفة مع إسرائيل، على جمر التوجسات الغربية.

لا أحد يستطيع تبصر مآل أو موعد نهاية الحرب على «الإرهاب الإسلاموي» التي يخوضها الغرب. إلا أنه من المرجح امتداد هذه المجابهة إلى داخل أوروبا والغرب، ومن شأن ذلك صب مزيد من الزيت على التوترات المشتعلة اليوم. وليس من مصلحة الدول الغربية ولا المسلمين المقيمين فيها، تفاقم العلاقات بينهما. وعلى الرغم من الحوارات والمعالجات والخطوات الإيجابية التي قام بها الطرفان، فإن هذه العلاقات لم تبلغ المستوى القانوني والاجتماعي والنفسي، الذي بلغته جاليات «أجنبية» أخرى، نزحت من دول إلى دول أخرى، واندمجت في مجتمعاتها. بل إنها مرشحة لأزمات أو انفجارات في المستقبل، إذا لم تعالج بحكمة وبعد نظر، وبتعاون الجميع.

هل المطلوب اندماج المسلمين المقيمين في الغرب في مجتمعاته، أم تكتلهم في «أقليات طائفية أو عرقية» متميزة؟ وهل يمكن للإنسان المسلم في الغرب التوفيق بين الاندماج الوطني والاجتماعي والثقافي في مجتمعاته، وبين المحافظة على دينه وممارسة شعائره وفروضه والمحافظة على تقاليده الوطنية؟ وما هو دور الحكومات الغربية والإسلامية والمؤسسات والمرجعيات الدينية الإسلامية في تسهيل هذا التوفيق، أو منع انفجار تناقضاته في المستقبل؟

هذا ما سنحاول الاجابة عنه، في مقال تال.