ماذا يجري في البوابة الشرقية؟!

TT

في يوم من الأيام كان الرئيس صدام حسين يتفاخر بأنه يدافع عن البوابة الشرقية للأمة العربية، وأيامها تعجب صديق موريتاني من تجاهل العرب جميعا للدور الذي تقوم به موريتانيا - وكانت ساعتها في أزمة مع السنغال - في الدفاع عن البوابة الغربية. والفكرة في الحالتين تتحدث عن «نطاق استراتيجي» عربي واحد له بواباته، وله دائما قلبه النابض، وكله يدخل في ما عرف في الأدب السياسي بالأمن القومي العربي. وبالطبع لا توجد هنا نية لمعاودة الحديث عن الفكرة ونتائجها، أو مدى صحتها وسلامتها، ولكنها حلت بشدة في أثناء زيارة خاطفة لدولة الكويت الشقيقة التي تبدو مرآة لأحداث منطقة بأكملها. وإذا كان ممكنا رؤية المشرق العربي كله من لبنان فإن الكويت بالتأكيد تمثل مرآة لمنطقة الخليج العربية - أو البوابة الشرقية - بكل ما فيها من تفاعلات استراتيجية وسياسية. وقد فرضت الطبيعة على الكويت، وهي دولة صغيرة من حيث المساحة وعدد السكان، أن تعيش وسط بيئة إقليمية مفعمة بكثير من عوامل الاحتقان والتوتر، فضلا عن مجاورة قوى إقليمية كبرى لها مصالحها وسياساتها التي تتشابك مع مصالح الكويت في أحيان وتتقاطع معها في أحيان أخرى، وهو الأمر الذي نتج عنه تحديات متعددة للأمن الوطني الكويتي.

ومنذ حصول الكويت على استقلالها في يونيو (حزيران) عام 1961 ظل العراق مصدر التهديد الأساسي للأمن الوطني الكويتي. فبعد أسبوع واحد من الاستقلال طالب العراق بضم الكويت إليه. وتجدد التوتر مرة أخرى في ديسمبر (كانون الأول) عام 1972 بعد قيام القوات العراقية بالدخول إلى الأراضي الكويتية، ووصل الأمر إلى ذروته مع الهجوم الذي نفذته قوات عراقية في مارس (آذار) 1973 على مركز الصامتة الكويتي الحدودي. وبعد توقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 بين العراق وإيران طلب العراق من الكويت تأجير جزيرة بوبيان لمدة 99 عاما، والتنازل عن جزيرة وربة مقابل الاعتراف بالحدود البرية بين البلدين، إلى أن تجمد هذا الملف لمدة ثماني سنوات في ظل الحرب العراقية - الإيرانية. ثم عادت الأمور بعد انتهاء الحرب إلى التوتر مرة أخرى، بسبب الخلاف حول بعض آبار النفط في المناطق الحدودية، وأسعار النفط، واستمر الحال كذلك إلى أن وقع الغزو العراقي للكويت في 2 أغسطس (آب) عام 1990.

ورغم أن الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 قد أزال نظام صدام حسين، فإنه لم يقضِ على التحديات والتهديدات النابعة من العراق تجاه الكويت، إذ ما زال وضع العراق تحت الاحتلال يفرز الكثير من التهديدات، ليس للكويت فحسب، بل لمنطقة الخليج كلها. أما التهديد الأول النابع من وضع العراق حاليا فهو أن حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تشهدها الساحة العراقية اليوم، تمثل بيئة خصبة للعناصر الإرهابية، بشكل يمكن أن يؤدي إلى تصدير عوامل الاضطراب وعدم الاستقرار إلى دول الجوار، وعلى رأسها الكويت. وقد بدأت مؤشرات ذلك تظهر في الأفق بعد اكتشاف عناصر وخلايا أمنية «نائمة»، حيث ألقت أجهزة الأمن الكويتية القبض على مقدم في جهاز أمن الدولة، وعسكري سابق في الاستخبارات العسكرية بالجيش، ورجل أعمال عراقي، في عام 2008، بتهمة «تسهيل دخول عناصر ممنوعة من دخول البلاد مقابل مبالغ مالية».

والثاني، هو احتمال «تسرب» التناحر الطائفي والعشائري من العراق إلى الكويت، وهو ما بدا جليا في مؤشرين: أولهما الأزمة الناشئة عن إقامة حفل تأبين لعماد مغنية القيادي في حزب الله الذي اغتيل في فبراير (شباط) 2008، وشارك فيه النائبان عدنان عبد الصمد وأحمد لاري، الأمر الذي دفع الحكومة الكويتية إلى انتقاد «الأقلية الشيعية» لتأبينها مغنية الذي وصفته الحكومة بأنه «إرهابي لُطخت يداه بدماء الشهداء». كما طلب النائب العام الكويتي من البرلمان رفع الحصانة عن النائبين. وثانيهما الأزمة التي أثارها دخول رجل الدين الشيعي الإيراني محمد باقر الفالي الكويت، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008، وهو المتهم بسبّ الصحابة، وهو ما دفع الحكومة الكويتية إلى تقديم استقالتها لأمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في 25 نوفمبر 2008. ويتصل التهديد الثالث بمحاولات بعض الأطراف العربية لإعادة طرح قضايا كان من المتصور أنها قد انتهت بسقوط صدام حسين، وهي أمور تتعلق بمسألة التعويضات التي أقرتها الأمم المتحدة، وترسيم الحدود البحرية، وحماية علامات الحدود بين البلدين.

أما التهديد الرابع الناشئ عن وضع العراق الراهن فهو يتعلق بمحاولة إيران ملء الفراغ الاستراتيجي في العراق استعدادا للانسحاب الأميركي من العراق، وهي في سبيل إنجاز تلك المهمة تقوم بتدعيم علاقاتها مع القوى العراقية الحليفة لها التي وصلت إلى الحكم بعد إزاحة نظام صدام حسين، وهو ما يمكن أن يجعل العراق رهينة لهذه القوى يمكن أن تستخدمها كورقة ضغط على دول الخليج، ولا سيما الكويت، خصوصا أن سيطرتها على العراق سوف تؤدي حتما إلى مزيد من اختلال توازن القوى الاستراتيجي في المنطقة.

ولا يجب أن يفهم مما سبق أن إيران لم تكن من قبل مصدرا لتهديد الأمن القومي الكويتي، بل إنها شكلت - هي الأخرى- دائما معضلة للأمن القومي الكويتي. إذ إن حالة الهدوء التي اتسمت بها العلاقات بين الطرفين والتي امتدت منذ استقلال الكويت عام 1961، وحتى قيام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979 حين اعترفت الكويت بالنظام الإسلامي الجديد، سرعان ما تلاشت مع اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988)، وحلت محلها علاقات متوترة بلغت ذروتها عام 1985، مع تعرض الأراضي الكويتية لاختراق بري إيراني وقصف بالصواريخ، فضلا عن اتهام الكويت لإيران بمحاولة اغتيال أمير الكويت السابق الشيخ جابر الأحمد الصباح في 25 مايو (أيار) من العام نفسه، إلى جانب قيام القوات الإيرانية بمهاجمة ثلاث ناقلات كويتية وعشر ناقلات متجهة إلى المواني الكويتية وعائدة منها عام 1986، زادت إلى أربعين عام 1987، وهو ما دفع الكويت إلى تقديم طلب للدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن لحماية ناقلاتها.

ولكن بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية، عادت الأمور إلى التهدئة مرة أخرى، خصوصا مع إدانة إيران للغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990. ورغم ذلك فإن ثمة اعتبارات كثيرة أبقت المخاوف الكويتية تجاه إيران على حالها. الاعتبار الأول هو استمرار وجود خلافات حدودية بين الطرفين، فإلى الآن ما زالت قضية الجرف القاري تمثل محورا مهمّا في العلاقات بين الكويت وإيران، حيث تعتبرها الأولى دليلا على رغبة إيران في التمدد على الساحة الإقليمية على حساب المياه الإقليمية الكويتية، فضلا عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، لا سيما الكويت. الاعتبار الثاني هو اختلال توازن القوى العسكري في الخليج لصالح إيران، الذي توظفه الأخيرة في بعض الأحيان لتهديد دول الجوار فضلا عن الولايات المتحدة بهدف ردعها عن فكرة توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية. وكان آخر هذه التهديدات ما جاء على لسان اللواء يحيى رحيم صفوي المساعد العسكري ومستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي قال في 16 فبراير الحالي إن إيران تسيطر على مضيق هرمز وإنها لن تتردد في إغلاقه إذا تعرضت لاعتداء.

ويتصل الاعتبار الثالث بتطورات الملف النووي الإيراني التي تثير قلقا ملحوظا لدى الكويت، خصوصا أن السيناريوهات المحتملة للأزمة يمكن أن تنتج تداعيات سلبية على أمن ومصالح الكويت. فإذا تعرضت إيران لضربة عسكرية ضد منشآتها النووية فإن دول الخليج، ومنها الكويت، ستكون في مرمى الخطر، خصوصا أن إيران يمكن أن تلجأ إلى إغلاق مضيق هرمز، فضلا عن مهاجمة القواعد العسكرية الأميركية الموجودة في دول الخليج، أو إثارة خلايا «نائمة» تابعة لها، لتنفيذ عمليات تخريب داخل دول مجلس التعاون. أما إذا تم التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة فإن ذلك يمكن أن يتيح لإيران امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بما قد يمثل تهديدا للكويت التي لا يفصلها سوى أقل من 300 كيلومتر عن مفاعل بوشهر، وذلك في حال حدوث تسرب إشعاعي من المفاعل.

كل ذلك لا يمثل قضايا كويتية خاصة بقدر ما يمثل موضوعات وهموم خليجية، أو قضايا بالغة الخطورة تخص البوابة الشرقية إذا شئت.