الراحل المقيم

TT

احزر مَن تذكر غياب الطيب صالح في 20 فبراير (شباط)؟ لا، لا أعني العالم العربي، ولا العالم الأدبي، ولا عالم الطيبين، والأخيار، والصديقين، والمبدعين، والبسطاء، والمتواضعين. أقصد، ما الجهة الرسمية التي تذكرت؟ أجل، التلفزيون السوداني. ذكرى لم تمر هذه المرة على الرقابة العسكرية، ولا على السوداني الوطني الذي قرر ذات مرة أن يمنع كتب الطيب، وأن يطفئ نور السودان قبل أن يذهب إلى النوم، وإنما هذا المساء، حلقة من أدباء السودان يستعيدون، في اعتزاز أدبي وإنساني، آثار ذلك الإنسان وآدابه وأعماله، الذي كان سودانيا، وأكثر شفافية وعربيا، وأكثر سماحا وأفريقيا وأكبر قلبا.

تحدث الأدباء. وغُني باللحن السوداني، وسحبة «المامبو» الملازمة للألحان كلها. غنى مطرب: «كنت لنا نورا يضيء لنا غدا». وعرضت مقابلة مع الطيب يقول فيها عن «أبو الطيب»: «كان أعظم شاعر في الأمة العربية، وأعظم شاعر في اللغة العربية، وربما أعظم شاعر في الإنسانية».

أضعت في أسفاري ومنازلي وتنقلي، أشياء كثيرة، على مدى السنين.  أضعت، فيما أضعت، رسالة جاءتني من مكتب الجنرال ديغول، الذي كان، في أي حال، يرد على الرسائل جميعها التي ترده. وكنت قد بعثت برسالتي عن طريق السفير الفرنسي في أيرلندا، وهو صديق للجنرال، فقد ساقه عندما كان رفيقه في مقاومة الاحتلال النازي. وفقدت صورا كثيرة لا يمكن أن تستعاد، وبينها صورة مع الرئيس جمال عبد الناصر في جدة عام 1965. وفقدت، أو أهملت، كتبا كثيرة، وأنا أحزم حقائبي أو أمتعتي، من مكان إلى مكان.

طبعا أشعر بالأسف، لكنني لا أشعر بالندم. الندم ثقيل وأسى دائم. وثمة أشياء كثيرة، وإضاعات كثيرة تحرك فيّ باستمرار شلالات الندم. وفي أي حال، حفظت من الرسائل أكثر مما أضعت. والسلام على روح الطيب، لا أدري لماذا خطر له أن يكتب لي، قبل حوالي عقدين، رسالة من ثلاث صفحات. أكرمني بها وأغرقني، في ذلك الجزء الذي كان يملكه من النيل. كم هو ندمي عميق لأنها ضاعت مني، ما بين لندن وبيروت. وتحية إلى التلفزيون السوداني، فقد كنت أسمي الطيب «الراحل العظيم»، والصحيح «الراحل المقيم».