نيجيريا تدخل حلبة المبادرات في السودان

TT

بعد ان كان الكل يبدي تفاؤلا بان المبادرة المصرية ـ الليبية ستقود حتما الى الوفاق المرتجى في السودان بعد المذكرة التي حملت تسع نقاط، لم تنخفض درجات التفاؤل فحسب، وانما تملك البعض اليأس من امكانية نجاحها وصنفت من ضمن مسلسل دائرة المبادرات التي تظهر لتشغل حيزا من الوقت ثم تنزوي! وفي الساحة السياسية ظهرت الآن مبادرة جديدة اطلقها الرئيس النيجيري أوباسانجو تهدف الى توحيد رؤى الجنوبيين الذين تتنازعهم شتى التوجهات، ولكن قبل الحديث عن هذه المبادرة دعونا نتوقف عند اسباب انحسار التفاؤل بالنسبة للمبادرة المصرية ـ الليبية، وهل هناك من أمل لاستعادة الحيوية لها والمضي بها لتحقيق مقاصد الوفاق؟ بعد ان تلقت دولتا المبادرة الموافقة من جميع الاطراف على النقاط التسع مع بعض التحفظات من بعض الجهات منذ ثلاثة أشهر تقريبا فان الدولتين لم تتابعا الامر متابعة متواصلة لكي يتحقق اي انجاز في اطار تلك النقاط، وكان ابرز ما ينتظر منهما هو العمل على توفير المنبر التفاوضي مع دول «الايقاد» حتى لا تكون هناك حساسية أو ما يمكن تسميته تنازعاً بين الدور العربي والدور الافريقي بينما المبتغى هو تكامل الدورين. بيد ان ما يؤسف له ظهور بوادر انقسام أو اختلاف بين الدولتين حول ما يتوجب تحقيقه في المرحلة القادمة مما بدد الكثير من التفاؤل بانقسام الدور العربي نفسه! لقد رأت ليبيا ان تستثمر فرصة احتفالات الفاتح من سبتمبر التي دعت اليها العديد من الرؤساء الافارقة لتكون مناسبة لعقد قمة مصغرة حول الشأن السوداني ودعت اليها اطراف المعارضة المختلفة في الوقت الذي كان رأي مصر غير ذلك، اذ ترى انه لا بد من الوصول الى وفاق مبدئي بين اطراف النزاع وتفاهم مسبق معقول مع دول الجوار الافريقي قبل انعقاد قمة كالتي تدعو اليها ليبيا، وانعكس هذا الخلاف على الصعيد العملي، فبينما ذهب المهدي الى الجماهيرية اعتذر الميرغني وتخلف قرنق ولم يشارك الرئيس المصري في الاحتفالات واقتصرت الاجتماعات بين القذافي والبشير والمهدي كما ورد في صحف الخرطوم، ولم تنعقد القمة المصغرة التي رأت الجماهيرية انعقادها. وهكذا بدا الشرخ واضحا بحيث القى بظلال كثيرة على مستقبل المبادرة المشتركة، وان ذكر لاحقا ان دولتي المبادرة قد اعدتا تصورا ما خلال اجتماعات عقدت في طرابلس سيسلم الى كل الاطراف تحريكا لآمال الوفاق وليس معروفا إن كانت الورقة الجديدة درءا لما وقع بينهما من خلاف أو تستراً عليه! وعلى الجانب الافريقي فإن مبادرة «الايقاد» لا تزال تراوح مكانها ومن المفترض ان تكون دوامة اجتماعاتها قد استؤنفت من جديد بين الحكومة وحركة قرنق وسط اجواء تشير الى ان الرئيس الكيني، الذي هو رئيس لجنة الوسطاء، غير راض عن فكرة دمج المبادرتين أو حتى التنسيق بينهما لاسباب غير مدركة على وجه اليقين، ربما لأن طرفي المبادرة لم يجريا اية اتصالات مباشرة معه، وربما لان علاقاته ليست حسنة مع القذافي، وربما لان هناك جهات عديدة تدفع باتجاه الرفض! وايا كانت الاسباب فإن الدور الافريقي مطلوب واساسي لدعم الوفاق السوداني، وللأسف فإنه حتى الآن لا يبدو ان التحرك العربي أخذ منحى جديا ومتواصلا في هذا الشأن وعلى أعلى المستويات.

ولعل من ابرز الآيات الدالة على هذا القصور ظهور مبادرة جديدة تتبناها هذه المرة دولة نيجيريا ويقودها رئيسها أوباسانجو، فقد دعا الى عقد مؤتمر في ابوجا في الحادي والعشرين من الشهر القادم يضم كافة الوان الطيف السياسي الجنوبي بما في ذلك الحركة الشعبية التي يقودها د. قرنق. وتجيء هذه الدعوة بهدف توحيد كل رؤى أهل الجنوب حول شكل ومضمون الحكم الذي يريدونه، باعتبار ان هناك تعددا في الرؤي بين دعاة للوحدة في ظل الفيدرالية، ومنادين بالكونفدرالية، ومطالبين بالانفصال، ويشدد المتحمسون لفكرة هذا المؤتمر على انه سيضع حداً لهذا التضارب بين ابناء الجنوب، خاصة للمهمشين منهم بسبب الاوزان التي تتمتع بها حركة قرنق لانها تملك جيشا وقوة ضاربة وبالتالي فان صوتها وحده هو الاعلى بينما رؤيتها في حل قضية الجنوب من وجهة نظرهم لا تبدو واضحة أو انها تفكر في حل المشكل السوداني ككل دون اعتبار خاص لمشكلة الجنوب التي راح ضحيتها اكثر من مليوني شخص الى آخره من الانتقادات، بل ويذهب البعض الى القول ان المبادرة المصرية ـ الليبية تعتبر مبادرة معنية بحل مشاكل أهل الشمال دون سواهم لأنها لم تضمن في بنودها فصل الدين عن الدولة، أو حق تقرير المصير للجنوبيين.. وهذان المطلبان يلخصان أهم ما يطالب به اهل الجنوب، وهما من أهم البنود التي وردت في اعلان مبادئ دول «الايقاد»، بل ان حق تقرير المصير اصبح من الثوابت التي التزمت بها كل القوى السياسية السودانية بما فيها الحكومة وأي تنكر لهذا الحق أو تجاهل له يعني العودة مرة أخرى الى ما يطلق عليه بالتنكر للعقود والعهود من قبل الشماليين كما يعتقد الجنوبيون! وبالرغم من ان دولتي المبادرة المشتركة تدفعان الاتهام بأي تجاهل من جانبهما لحق تقرير المصير، فإنهما تؤكدان ان ما يرتضيه اهل السودان سيكون بلا شك موضع الرضاء والاحترام من جانبهما وانهما لا تشكلان وصاية على اهله، أو نوع الحكم الذي يرتضونه، وان عدم الاشارة الى حق تقرير المصير عائد الى قناعتهما بأن هناك امكانية لا شك فيها للوصول الى الوفاق الذي يجعل خيار الوحدة هو الخيار المفضل للجميع. كذلك فإن فصل الدين عن السياسة هو أمر عائد لأهل السودان ومن الطبيعي ان ترد مناقشته ضمن البنود المطروحة في المبادرة في اطار شكل ومضمون الحكم الذي يتفق عليه الجميع مع قيام الحكومة الانتقالية التي سيناط بها تنفيذ الاتفاق.

ومهما يكن الامر فإن فكرة عقد مؤتمر للجنوبيين التي دعا اليها الرئيس النيجيري الشهر القادم تعتبر اضافة لمسلسل المبادرات، وهي قد وجدت بلا شك ترحيبا من الحكومة وان لم تجد معارضة تذكر من جانب المعارضة التي تسعى لتوحيد منبر التفاوض لاتساع مشاربها، والتي تخشى على الدوام من الفصل بين قضية ازمة الحكم في السودان وقضية الجنوب، بحسبان ان الفصل دائما يعتبر خطوة باتجاه فصل الجنوب، خاصة بعد ان توحدت كل القوى السياسية المعارضة في التجمع الذي شمل الجنوبيين والشماليين على السواء، وبعد ان اثبت التفاوض بين الحكومة من جهة وحركة قرنق من جهة أخرى، في ضوء مبادرة «الايقاد»، عقم الوصول الى نتائج والى ان النظام يستغل فرص تعدد المبادرات والمنابر للقفز بين هذه وتلك كسبا للوقت وهروبا من مواجهة الاستحقاقات عند الاقتراب من الوصول الى نتائج حاسمة! ان المبادرة النيجيرية ربما تكون ذات فائدة عظيمة لو تمكن الرئيس النيجيري من توحيد مواقف القوى الجنوبية المختلفة حول برنامج واضح لحكم الجنوب في ظل السودان الموحد، وهو في هذه الحالة يكون المؤتمر الذي يرعاه قد حسم كل أو جل التباين في الرؤى بين الجنوبيين وحدد البرنامج الذي يمكن ان يكون اساسا للتفاوض والوصول الى الفدرالية التي تحقق مطامح اهل الجنوب، وبالتالي يكون هذا المؤتمر مساهمة عظيمة في الدفع باتجاه الوصول الى توحيد المنبر والى دمج كل المبادرات والتنسيق بينها للوصول الى الاتفاق المرتجى لحل ازمة الحكم في السودان.

ولا ريب ان الرئيس أوباسانجو معني بكل ما يفضي الى دعم وتعزيز وحدة السودان سواء من خلال معرفته وملامسته للقضية السودانية في مراحل سابقة أو من خلال تشابه ظروف وأوضاع نيجيريا باوضاع السودان، ومن هذا المنطلق فالمأمول والطبيعي ان يجعل من مؤتمر الجنوبيين تحت رعايته القدوة الحسنة التي يطمح عبرها الى تعزيز وحدة السودان اسوة بوحدة نيجيريا التي لا يقبل التفريط فيها بأي حال من الاحوال خاصة بعد درس بيافرا الذي خلف الكثير من المآسي والتجارب التي استعانت بها بلاده للمحافظة على وحدتها بحسبانها اكبر دولة في القارة، ولهذا علينا ان نتفاءل بان يكون مؤتمر ابوجا اضافة هامة وحاسمة في تفعيل المبادرة المشتركة والتنسيق بينها وبين مبادرة «الايقاد» وتحقيق التفاعل المنشود للدورين العربي والافريقي في حل ازمة الحكم في السودان. وحتى انعقاد مؤتمر نيجيريا نأمل ان تقطع المبادرة المشتركة دورا كبيرا وهاما في تقريب المسافات وردم الفوارق بين مختلف الجهات.