ثقافة القرص المضغوط ..والمعلّب

TT

اذا كنت من عشاق التلفزيون والالعاب الالكترونية، ومن المدمنين على سماع الاغاني الخفيفة والسخيفة، والمواظبين على ممارسة الرياضة (بصرف النظر عن نوعها) فأنت انسان عصري. اما اذا كنت، اضافة الى كل ما سبق، مهووساً بالابحار على شبكات الانترنت، والتواصل مع من تعرفهم ومن لا تعرفهم، فاعلم انك تعيش روح العصر، وتنهل من عصارته. اما ديناصورات الثقافة التقليدية، الذين أفنوا أعمارهم في التأمل الفلسفي وتحليل التاريخ وقراءة الشعر، فهؤلاء بإمكانهم ان يواصلوا نعيهم لانفسهم، ولدورهم المزعوم، لأنهم يعيشون خارج التيار، الذي قد لا يتوقف قبل ان يأكل الاخضر وما يبس.

فثمة ثقافة جديدة، تكتسح المعمورة، لا تريد ان تعترف بالمتجهمين والمتطلبين والمعترضين، المداومين على النقد والنقيق، وتفضّل على هذه النخبة العصيّة، تلك الجموع التي تقبل بشهية على المعلبات الثقافية، ولو كانت من دون طعم او رائحة، وخلواً من الفيتامينات الشعورية الشفافة.

الثقافات الشعبية كانت ابداً اقوى صوتاً ونبضاً من ثقافات النخب، لكننا هذه المرة، امام ظواهر شعبية وكونية في آن معاً، اما جوهرها فاستهلاكي، لم يوفر اغراء حاسة الا واستغله، ولم يتقن تجييش عاطفة الا واثارها، حتى تجدنا امام واقع غير مسبوق تعيشه البشرية بما يشبه الانجراف الجنوني اللاواعي، او التسليم الطوعي الاخرق. وشئت ام ابيت فحين تتحدث عن الثقافة لا بد ان تبحث في الفنون الاكثر فتكاً وتأثيراً في الذهنية والذوق الانسانيين. وهنا لن تجد المسرح او الرواية او الفن التشكيلي على رأس القائمة، وانما تأكد ان المزاج العام، هو غنائي ـ موسيقي بالدرجة الاولى، وان رؤوس سكان الارض تدور بدوران الاقراص المضغوطة والاشرطة، حتى ان النتاجات الموسيقية باتت تشكل ربع الحركة التجارية الثقافية في العالم، والتي تقدر بعشرات مليارات الدولارات، تفوز بحصة الاسد منها اميركا تليها بريطانيا، وهو ما يفسر اصرار الولايات المتحدة، لا بل واستشراسها لتطبيق قوانين التجارة العالمية على عمليات تبادل كافة النتاجات الثقافية بما في ذلك الموسيقية منها.

وقد يدافع كثيرون عن حق الانسان في حياة سكونها وجد وحركتها نغم، باعتبار الموسيقى غذاء الروح، وهذا كله صحيح، انما الموسيقى كما تفبرك اليوم، في قسم كبير منها، هي زعيق وضجيج لا يرقى بالذوق بل يوتّر العصب. وليست ازمة الغناء العربي، وتنامي عدد الفنانين الذين يغنون ناشز الالحان بحناجر تصلح لبعث النكد بدل الطرب، سوى بعض من تلك الموجة الكونية التي تسوّق الاغاني كما اطارات السيارات او اطعمة القطط او قطع اللحم المثلج. وكي لا تظن اننا نتجنى على الفن والفنانين فإنه بات من المعروف لدى كل المعنيين ببورصة الموسيقى ان شركات لا يتعدى عددها اصابع اليد الواحدة تحتكر وحدها انتاج ثلاثة ارباع الاغنيات والالحان التي تسمعها القارات الست، في ما يترك فتات الثلث الباقي لصغار المنتجين، وداخل هذه الدورة الجهنمية التي ان تتبعتها جاز لك ان تتبرأ من «الثقافة الموسيقية العصرية» واهلها، فإن الفنان هو المادة الخام التي تنفض وترتب وتقولب بحسب الطلب. ومعلوم ان منتِجاً عملاقاً بإمكانه ان يجعل من المسخ نجماً، ومن قرقعة الحديد صيحة فنية. والمنتجون، الذين يتربعون على امبراطوريات المصانع الفنية التي من اهم ابداعاتها القدرة الفائقة على تحليل مكامن ضعف المستهلك وتوظيفها في مزيد من الاستهلاك، هؤلاء المنتجون يعرفون تماماً ان ادق مراحل العمل الموسيقي هي مرحلة توزيعه بسخاء اعلاني وعبر شبكات محلية تتمدد كالشرايين في انحاء الارض، وهو امر يتطلب لانجاحه انفتاحاً على الموسيقات التقليدية، مما حدا بغالبيتهم تبني ايقاعات وانغام افريقية وعربية وهندية ولجوء الى خلط ومزج. انما الاختصاصيون الفرنسيون ـ الذين ينظرون بعين الحسرة الى كل ما يجري ـ يقولون لك ان هذا التثاقف لا يمس سوى واجهة تخبئ وراءها روحاً انجلو ـ سكسونية نجحت في غزو العالم لغة ولحناً ورؤى واحلاما.

وقد يتضح المشهد الثقافي الكوني بشكل اوضح لو علمت ان تلك الامبراطوريات الصناعية التي ترفدك بموسيقى الجاز والبوب والروك والراب والتكنو هي نفسها التي تحضّر لك الوجبات الرومانسية او التاريخية او المحضرة من الخيال العلمي او الخيال المرعب عبر افلام ضخمة تسكن مخيلتك طويلاً بعد مغادرتك لصالة عرضها، وهي نفسها التي تدس أنفها في انتاج اشرطة الفيديو والبرامج التلفزيونية والاذاعية والفيديو كليب ولا تهمل الفن الفوتوغرافي او حتى اصدار المجلات والكتب.

بهذا المعنى لا تفهم اذا كانت الثقافة الجديدة هذه التي تصادرها حفنة من المتمولين، يستطيعون الاستثمار في الموسيقى والقطارات والسياحة بالروح عينها (مثل الشهير ريتشارد برنسون ـ مؤسس «فيرجن ميجاستور») هي ثقافة بالفعل ام توليفات وتركيبات توضب في علب وتعرض في متاجر انيقة؟ وهل ثمة كثيرون اليوم يعرفون الفرق بين سيمفونيات بيتهوفن وموزارت وتلك الالحان الناشزة التي تطلقها الازرار الالكترونية، خاصة ان الكلاسيكيات التي احتفى بها العالم طويلاً تجدها وقد نزلت الى الحضيض مقابل ارتفاع حماسي في اسهم الموسيقى الالكترونية وازيزها الصدىء.

خلال السنوات العشرين الاخيرة، لا بد ان المسلك البشري، قد شهد انقلاباً اصاب عمق البنية النفسية للانسان، وانعكس على طبيعة متطلباته. فقد تضاعف اقبال الناس على شراء النتاجات الموسيقية والالعاب، وكذلك المستلزمات الرياضية، بما نسبته اربع مرات مما كان عليه سابقاً، وهي متطلبات مصنفة رسمياً، في الوقت الحالي باعتبارها احتياجات ثقافية. فهل باتت الثقافة بوجهها المستحدث لعباً ولهواً وصراخاً؟! لقد استطاع ابو الفرج الاصفهاني ان يلخص الحياة العربية في عصره والعصر الذي سبقه في كتابه الفذ «الاغاني» متخذاً من الغناء مدخلاً للنفاذ الى سير الخلفاء والادباء والجواري وسيرة تطور الشعر العربي. ونحن لا يحق لنا ان نكتفي بقراءة هزال الغناء العربي بأن نتهمه بالسخف والغباء. فالتفاهة لها مدلولاتها وابعادها، ولعلنا بحاجة الى دراسات سوسيولوجية واقتصادية وربما سياسية تتخطى ابعادها حدود الخارطة العربية لنفهم على الاقل لماذا صعق الشباب حين اطلق احدهم صيحته المغناة «عربي انا اخشيني» واتبعها كلاماً لا علاقة له بتلك النخوة التي يبشر بها المطلع، وكأنما عبارة واحدة تضرب على الوتر الحساس، باتت تكفي لأن تصنع من مغمور نجماً لامعاً في الفضاء العربي القاحل.

نخشى ان يكون مضمون هذه الاغنية هو مضمون الهوية العربية التي تنتظرنا.. فيا للكارثة!