قرارات الاستبعاد.. حسابات الربح والخسارة

TT

بعد سبع سنوات من ولادة قيصرية لنظام حكم جديد في العراق، يعود البعث للواجهة، يخطف الأضواء، يصبح فجأة حديث الناس ومحط اهتمام الأوساط السياسية في الداخل والخارج.

انطلق الجدل الراهن حول مشروعية ومقبولية البعث من خلال أزمة، كأنها دُبَّرت بليل، أربكت العملية السياسية المضطربة أساسا، وزعزعت ثقة المواطن الشاك فيها سلفا، وعمقت الهوة بين الفرقاء في خلافات قائمة أصلا، وصرفت الأنظار عن هموم كثيرة ومشكلات عاجلة تتعلق بالوطن والمواطن. بل عرقلت المساعي والخطط الموضوعة لحملات دعائية كان يتوقع لها أن تتناسب مع انتخابات يترقب الجميع نتائجها بقلق وإشفاق على مستقبل العراق؛ لأن الكل يعتقد أنها ستكون نقطة تحول مهمة في بناء العراق الحديث.

بعد سجال سياسي وقانوني غير مسبوق، لم تعد الحاجة في تصوري قائمة إلى مزيد من التوضيح بأن قرارات الاستبعاد المتخذة مشكوك في قانونيتها، والموضوع لم يعد يناقش من الزاوية القانونية بعد أن تكشفت الكثير من الحقائق فيما بعد، وزالت الشكوك حول مغزى هذه القرارات موضوع البحث، التي ثبت للقاصي والداني أنها لم تكن قانونية، بل هي سياسية منذ البداية. ولو لم يكن قانون المساءلة والعدالة موجودا أو نافذا لتفتقت الأذهان والعقول عن وسائل أخرى بديلة للإقصاء والاستبعاد.

لقد اعترضت قائمة «تجديد» على قرارات الاستبعاد بأكثر من وسيلة سياسية وإعلامية، باسمها أو بالتضامن مع حلفائها في كتلة «العراقية»، ولم يكن هذا الموقف إلا إضافة جديدة إلى سجل «تجديد» المتميز نهجا وقادة وأعضاء، وكفاحها وسعيها الدؤوب في بناء دولة المؤسسات والعدل. موقفها ينطلق من احترام الدستور والعمل بالقوانين النافذة - رغم تحفظات معتبرة تستدعي التعديل والتصويب - وهو استحقاق يستند إلى الشراكة في العملية السياسية، بل والمشاركة في السلطة.

وخلافا لما حاول البعض ترويجه كذبا وتدليسا، لم تكن لموقفنا علاقة من قريب أو بعيد بحزب البعث. موقفنا واضح وضوح الشمس، وقد أعلنا عنه في أكثر من مناسبة، والجميع يعلم به، وهو ليس سرا من الأسرار. ولسنا في ذلك محل اتهام، وليتهم من يشاء بما يشاء. فإننا نعرف من نحن، وشعبنا يعرف ما نفعل.

حزب البعث له تنظيماته ووسائل إعلامه والمتحدثون باسمه، وهو بالتالي لا يحتاج لمن يدافع عنه. هو بالتأكيد لم يكلفنا بالدفاع عنه. وندافع عنه عن ماذا؟ وأي عملية سياسية تلك التي يتهموننا بأننا نسهل دخوله فيها أو اختراقه لها؟ وهو يستنكر هذه العملية السياسية ويحرم المشاركة فيها، ويصف من يشارك فيها بأوصاف معروفة، لا يستثني في ذلك أحدا، وهو بالمناسبة ليس وحده من يتبنى هذا الموقف، بل هناك إلى جانبه الكثير.

وعلى الرغم من مواقف سياسيين نافذين غارقين حتى آذانهم في السياسة، يعرضون عن الالتزام بالقانون، ويستبد بهم القلق اليوم على نتائج الانتخابات، ويسعون بمختلف الوسائل لتحديد نتائجها مبكرا! فقد حاولنا غاية ما نستطيع أن يكون موقفنا موضوعيا وقانونيا. ومن هذه الزاوية المجردة من أي شبهة أو غرض اعترضنا على قرارات الاستبعاد.

القرائن لم تكن كافية، والأدلة ليست مقنعة، والشفافية معدومة، وأصول المحاكمات لم تراع، والقانون المنظم لتطبيق الفقرة السابعة من الدستور لم يشرع، والهيئة الوطنية للمساءلة والعدالة لم تشكل، علما بأن القانون كان قد حصر نطاق تطبيقه على الموظفين الحكوميين، ولم يتطرق لمرشحي الانتخابات. وفوق ذلك كله تجبر لجنة محكمة التمييز على تغيير قرارها، وتلزم عوضا عنه بإنجاز ملفات طعون كثيرة في زمن قياسي قصير!.

بعد كل هذا الذي حصل وشكل سابقة في خرق الدستور والقانون، وجرد القضاء العراقي من أهم ما يميزه مقارنة ببقية السلطات وهو الاستقلالية، هل المطلوب منا بعد كل هذا الذي حصل أن نلوذ بالصمت، تاركين الأمور لتتفاقم هكذا لمجرد إشباع الغرور والغرائز دون الاكتراث بما قد يصيب العراق من أذى في تماسك جبهته الداخلية وسمعته في الخارج؟

أعتقد أن المصلحة الوطنية والمسؤولية الأخلاقية تستوجب نقيض ذلك، وهو الموقف الذي تبنيناه.

المكتسبات السياسية التي تحققت في بحر السنوات الماضية كان بالإمكان أن تكون أفضل، ومع ذلك أتفهم مشاعر القلق إزاء المحافظة عليها، وأجد المخاوف من تهديدها أو زوالها مشروعة، لكن هذه المشاعر والهواجس يفترض أن يستثيرها الانحراف أو الخروج الفاضح على قواعد اللعبة الديمقراطية، وأعني على وجه الخصوص: رفض الرهان على عملية سياسية سلمية، أو رفض مبدأ التداول السلمي للسلطة. هذه خطوط حمراء ترسم حدود النموذج الديمقراطي الذي تعهدنا أو اتفقنا على العمل به ومن أجله لبناء العراق الجديد. ومن لا يلتزم بهذه الحدود والمبادئ، لا أدري كيف يمكن أن يطرح نفسه شريكا نزيها؟ كيف يمكن أن يمارس دوره كعضو في مجلس النواب أو وزير في الحكومة؟ الجواب على ذلك معروف، وهو: مستحيل!.

هل كان من المنطق الانسياق وراء مزاعم استندت إلى حيثيات ما زالت محل جدل، بأن البعث عائد إلى حكم العراق عبر تسلل بضعة نواب من خلال عربة العملية السياسية التي يصفها البعث نفسه بأنها أداة لتكريس الاحتلال، وهو يتبرأ منها صباح مساء، أو أن ينشط في إطار دستور لا يعترف به ولا بمشروعيته؟! إنها حقا طروحات عجيبة غريبة!.

إن الخطر - إذا كان ثمة خطر فعلا - إنما ينبثق من مصادر القوة التي تتمثل اليوم في حالتنا بالمؤسستين العسكرية والأمنية، وليس من خلال المؤسسات الديمقراطية. والجميع يعلم مَن يهيمن اليوم على هاتين المؤسستين، ومَن ينفرد بانتقاء كبار الضباط لمختلف المراكز القيادية الحساسة، والأسس المعتمدة في قرارات التوظيف أو الاستبعاد. كما يعلم الجميع أن كل هؤلاء الضباط وبلا استثناء تدرجوا سابقا في تنظيمات البعث، ووصلوا إلى مراكز حزبية متقدمة، وهي حقيقة معروفة. لماذا لا يكون هذه النهج هو مصدر الخطر؟!.

هل كان المطلوب هو ذر الرماد في العيون من خلال صرف الانتباه إلى مجموعة مرشحين قبلوا بقواعد اللعبة الديمقراطية منذ انبثاق النظام الجديد بدل النظر بجدية إلى تشكيلات القوات المسلحة وتدقيق خط خدمة كبار الضباط؟!

ورغم أن قرارات توظيف واستبعاد كبار الضباط تجري في الغالب وفق معايير مشبوهة وملونة طائفيا وعرقيا، إلا أنني مع ذلك لا أريد ولا أطالب باستبعاد هؤلاء الضباط، ولكني أطالب في الوقت نفسه بإنصاف أقرانهم الذين استبعدوا ظلما وما زالت البلاد في أمس الحاجة إليهم وإلى خبراتهم ومهنيتهم. وموقفي من المصالحة يعلمه الجميع، إذ أعلنت عن قناعتي مبكرا بضرورة استفادة العراق من كل خبرة أو مهارة يحملها أبناؤه في كل المجالات العسكرية والمدنية. ما قصدته هو تفنيد مبررات استبعاد بضعة مرشحين من خلال حملة منظمة لترويع الناس وخلق أعداء وهميين في ظرف حساس وقلق.

لقد تفاقمت الأمور في ظل الإصرار على استبعاد مرشحين من الانتخابات، وزاد التصعيد السياسي والإعلامي وبدأنا نسمع تصريحات ومواقف شكلت في المحصلة نكسة حقيقية للعملية السياسية ولمسيرة بناء دولة المؤسسات والمواطنة، وإلا كيف نفسر تصريحات محافظي بغداد والبصرة وذي قار وكربلاء والديوانية وغيرها؟!. تصريحات تتجرأ على القانون، وتتجاوز بصورة صارخة على النظام، من موظفين في الدولة يفترض أن يكونوا القدوة في الشعور بالمسؤولية، وأن يعكسوا في القول والفعل شعار «دولة القانون»، وكلهم حسب ظني ينتمون لنفس الحزب الذي تبنى هذا الشعار.

إذا كان البعض يعتقد أنه حقق كسبا كبيرا بالإصرار على حرمان مجموعة من المرشحين من حقهم الدستوري والقانوني في المشاركة بالانتخابات، فعليه أن يدرك أن الثمن مقابل ذلك كان باهظا دفعه العراق من حاضره ومستقبله.

وبعد الذي حصل، أشك أننا سنكون قادرين على بناء دولة المؤسسات بسهولة. أشك أن عراقيا لن يقلق مستقبلا كلما عرضت مصلحته أمام القضاء. أشك أننا سنكون قادرين على إصلاح الضرر الذي أصاب سمعة العراق في الخارج في ليلة وضحاها. أشك أن تكون مهمتنا يسيرة في زرع الثقة لدى المواطن بالنموذج السياسي الذي اعتمدناه بديلا للنظام السابق. لقد تمخضت قرارات الاستبعاد عن خسارة صافية للتجربة الديمقراطية لم يكن لها ما يبررها.

ما كتبته لم يكن مرافعة للدفاع عن البعث أو غيره، فالكل يعرف تاريخي ومعتقداتي، وإنما هي زفرات من قلب رجل مخلص لوطنه، يحب شعبه، ويشفق على مستقبله، كان عليه أن يقول في هذه الأزمة كلمة الحق، رضي البعض عنها أم غضب.

* نائب رئيس الجمهورية العراقية