اعترافات على تخوم الآخرة

TT

أهدت فرقة القمصان السوداء لموسوليني ذات يوم سيفا على حده الباتر قول لمكيافللي من كتاب «الامير» هو: «ليست المحافظة على الدول بالكلام».. ولو كانت الفرقة الفاشية تدري بما يدور في بيت قائدها لاختصرت المسألة وقالت: «ليست المحافظة على الزوجات بالفذلكة السياسية». فآخر اخبار الزعيم الايطالي المتواترة والتي تملأ الصحف باللغات كلها هذا الاسبوع ان زوجة بنيتو موسوليني كانت تخونه بمعرفته على مدار سنوات من دون ان يحرك سيفا او لسانا.

والتسريب ليس عن طريق عشيقة موسوليني كلارا، فتلك تم تعليقها معه على شجرة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ولو جاءت اخبار خيانة موسوليني عن طريقها لصعب تصديقها فالعشيقات عادة يشنعن على الزوجات والعكس بالعكس في تلك العلاقات الشائكة التي تجعل المساحة التي لا تتسع الا لاثنين موضع صراع بين ثلاثة افراد.

لقد جاءت تسريبات خيانة زوجة موسوليني عن طريق ابنتها عايدا التي لم تتعلم من اوبرا فيردي ضرورة كتم اسرار العائلة لصالح الوطن، وهي لم تأخذ اسرارها معها الى القبر كما فعلت عايدا، انما صرحت بها وهي على مسافة عدة خطوات من القبر، فالتصريحات المطبوعة والمنشورة هذا الاسبوع في مئات الصحف والمجلات تم تسجيلها مع ابنة موسوليني على فراش مرضها الاخير عام 1995، وفي تلك الظروف يصبح الانسان اكثر شجاعة واكثر رغبة في اراحة ضميره مما يثقله من خطايا واسرار. وهناك من يعتقد ان اعترافات اللحظة الاخيرة حين يكون الانسان على تخوم الآخرة دليل نقص الشجاعة، وليس دليل زيادتها فالشجاع يعترف، ويتحمل النتائج في حياته، والاقل شجاعة يتلفظ بما يعرف ويمضي تاركا الامر للتفاعلات بعيدا عن سمعه وبصره وادراكه بعد ان يختفي خلف ذلك الجدار الصامت الكثيف الذي يصعب اختراقه.

والرأي الثالث ان الاعترافات على سرير الاحتضار تأتي بمثابة وصية اخيرة وتلخيص للموقف العام للراحل من الحياة والناس، وهذا يجوز في حالة اصحاب التجارب المكثفة كالشعراء والادباء والسياسيين وعندنا منها احدث طبعة وهي اعترافات الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس التي سجلها كتابة وللكاميرا والميكروفون، وكان ونوس من الذين يعتقدون بان البشر يصبحون اكثر صراحة حين يتخلصون من وهم الخلود ويدركون انهم ـ فعلا وليس مجازا ـ راحلون، وهذا يحصل مع المصابين بأمراض مستعصية تتيح لهم ان يرتبوا اوراقهم وافكارهم، ووصاياهم وتلك ميزة ايجابية تأتي عرضا من باب استخلاص الخير من قلب الشر، واعتصار الظلام لاستخراج ما فيه من نور قليل واخير.

وفي حالة عايدا ـ ونطقها الصحيح ايدا ـ لم تكن الامور من هذه النوعية، فابنة موسوليني لم تكتب او تمثل او تقود انما انشغلت بالزواج والطلاق، وعاشت مأساتها الشخصية في ظل الاب المتسلط الذي رفض ان يزوجها بعشيق يهودي كي لا يغضب حليفه الالماني هتلر، ولاحقا حين تزوجت وفق ارادته اعدم زوجها الكونت جيانو، ومع ذلك ظلت تحبه، فقد كان موسوليني ـ وكل فتاة بأبيها معجبة ـ حبها الكبير والعظيم، لذا لم تتفهم ظروف والدتها حين اكتشفت انها تخون الاب الذي تحب، فطالبتها بوقف العلاقة ظنا ان الاب لا يدري، على مبدأ الزوج آخر من يعلم، ثم علمت ذات حديث اختلسته اذناها من المخدع الزوجي ان الاب يعرف خيانة الام التي استمرت عدة سنوات.

وقد كانت ابنة موسوليني الكبرى تعرف عن خيانات عديدة لأبيها. لكنها لم تعترض، فالأب في الثقافة الايطالية كجميع الآباء في الثقافات المتوسطية له الحق في كل شيء بما في ذلك حق الخيانة. أما الأم، فليست كالشعراء والرجال يجوز لها ما لا يجوز لغيرها لذا لم يتفهم حاجتها لانسان محب بجوارها يعوض غياب الزعيم المشغول بمهامه السياسية والغرامية حتى أقرب الناس إليها، وحتى الابنة التي جاءت من رحمها لم ترحمها من نظرات الريبة والتقريع والتأنيب.

وعلى فراش الموت تفهمت ابنة موسوليني ان عند امها اسبابها المقنعة لخيانة ابيها، ولأن الخيانة لا تبرر انما تفسر استجمعت آخر قطرات شجاعتها وقررت ان تحكي ولسان حالها يقول لقومها الطليان الذين تنتشر بينهم الخيانات الزوجية اكثر من انتشار السباغيتي: من كانت امه بلا خطيئة، فليقذف أمي بأول حجر.