نسبية «النسبية» في لبنان

TT

من حيث المبدأ، ماذا أفضل من نظام الانتخاب النسبي في حفظ حصص تمثيل الأقليات في بلد مثل لبنان تتعايش أقلياته الطائفية مع أكثرياته بحذر، فلا تكف هذه عن المطالبة بحقوقها المهدرة، وتلك عن السعي لمصادرة ما أمكن حصاده منها.

لو جاز لنظام التمثيل النسبي المطالبة ببيئة طبيعية لنموه لكان لبنان البيئة الأفضل: أربعة ملايين مواطن بأربعة ملايين وجهة نظر، لا يتفقون على أمر في آرائهم السياسية ويعتمدون على توجيهات هذا الزعيم أو ذاك ليتبنوا موقفا «شخصيا» من أي طرح سياسي.

ميزة النظام النسبي أنه يكفل، أكثر من غيره، تمثيل الجميع، وإن وفقا لأحجامهم الانتخابية، فلا يترك الساحة مباحة للأكثرية وحدها - حتى ولو فازوا بفارق واحد في المائة على منافسيهم - ولا يغمط حق «الأقلية» في التمثيل وإن خسروا سباق الأكثرية المطلقة.

على هذا الصعيد، ورغم ما يفرضه من حد أدنى من الأصوات مقابل حق التمثيل (5 إلى 10 في المائة في العادة)، نظام «النسبية» نظام ديمقراطي أكثر من كونه انتخابيا.

وهنا بيت القصيد.. فهذا النظام يتطلب، بطبيعته، أسلوب حياة ديمقراطية وقبولا واقعيا بالتعددية، قد يكونا غير متوفرين، بعد، في مجتمع لبنان.

مع ذلك يعتبر تطبيق النظام النسبي في لبنان، ولو في إطار الانتخابات البلدية فقط، خطوة إصلاحية لا يستهان ببعدها السياسي من حيث تعزيز تعددية التمثيل الشعبي وتصحيحه.

ولكن تأثيره الإصلاحي يظل، هو أيضا، «نسبيا» طالما بقي «المناخ الاجتماعي» لتطبيقه في لبنان غير موات لنجاح مضمون، فهو نظام مثالي لدول لا تعاني من انقسامات طائفية أو آيديولوجية عميقة تحول دون قيام أحزاب علمانية تتنافس على أصوات الناخبين بطروحات محض سياسية، وفي لوائح مغلقة.

في الوقت الحاضر، قد يكون المأخذ الأساس على تطبيق النسبية على الساحة اللبنانية المشرذمة سياسيا أنها لن تساعد على توحيد أبنائه حول شعار انتخابي «وطني» بقدر ما ستدفع الكثير منهم إلى التصويت انطلاقا من خلفياتهم الطائفية وولاءاتهم الحزبية - الإقليمية، الأمر الذي سيحمل الآخرين على التصويت بالمثل «حماية» لوجودهم، فيزداد لبنان تشرذما ومجتمعه تفسخا.

لذلك قد يكون من الأجدى تبني نظام انتخاب نسبي يراعي الواقع اللبناني دون أن يزيده تشرذما، ويمهد في الوقت نفسه لتمثيل سياسي أفضل في المستقبل، كالبدء، مثلا، بتطبيق نظام «مختلط»، بحيث يتم انتخاب نصف أعضاء المجالس البلدية بنظام التمثيل النسبي والنصف الآخر بنظام الأكثرية.

قد يبدو هذا النظام تسوويا ولكنه معتمد فعلا في روسيا حيث يُنتخب 50 في المائة من أعضاء البرلمان (الدوما) بنظام التمثيل النسبي، وفي المكسيك حيث ينتخب 40 في المائة فقط من أعضاء مجلس النواب بهذه الطريقة.

ولا بأس أيضا في أن تكون الضمانة الأخرى لنجاح نظام الانتخاب النسبي في لبنان في اعتماد آليته المطبقة حاليا في أيرلندا، رغم تعقيداتها الظاهرة، فهو يعطي الناخبين حق منح أرقام للمرشحين المدرجة أسماؤهم على ورقة الاقتراع تدل على ترتيب اختيارهم لهم. وبعد احتساب العدد الإجمالي لأوراق الاقتراع يحدد القيمون على الانتخابات، بطريقة محض رياضية، الحد الأدنى من الأصوات الضروري للفوز في الانتخابات، والمرشح الذي يحصل على المعدل الذي يؤهله لخيارات الناخبين الأولى يعلن فوزه، ثم توزع الأصوات الإضافية التي نالها هذا المرشح فوق المعدل المطلوب لنجاحه على المرشحين الذين جاءوا في المرتبة الثانية من خيارات الناخبين بعد استبعاد المرشح الذي حصل على أدنى عدد من الأصوات بين مرشحي المرتبة الثانية. وفي حال تم انتخاب مرشح المرتبة الثانية، تحول الأصوات إلى مرشحي المرتبة الثالثة.. وتستمر هذه العملية إلى أن ينال العدد المطلوب من المرشحين المعدل الانتخابي الذي يؤهلهم لملء كل المقاعد المتنافس عليها.

نظام معقد ولا شك.. ولكنه قد يكون الأسلم لبلاد «اللاغالب ولا مغلوب».