الغناء العربي: ظاهرة شبابية أم تدهور في الذوق الاجتماعي؟

TT

اكتشف الانسان منذ تعلم التصويت انه يستطيع ان يتلاعب بصوته لكي يعبر عن احواله ومشاعره. فالكلام له لغة صوتية، والضحك له صوت، والألم له صوت، والبكاء له صوت.

ثم عرف الانسان انه يملك قدرة هائلة على ترقيق صوته أو مده والانتقال به من طبقة صوتية الى اخرى. ولعله اولاً قلد وحاكى الطيور التي تصدر اصواتا تسليه وتمتعه. ثم عرف انه هو ايضا يستطيع بصوته ان يطرب نفسه، وان يعبر به عن عواطفه.

ومع الزمن، بات الغناء فنا جميلاً، بل فناً شعبياً وجماهيرياً تمارسه شريحة محترفة لم تكن تلقى احتراما اجتماعيا كافيا، غير ان شعبيتها كانت كبيرة. وفي عصر الاتصال الالكتروني من راديو وتلفزيون، تشكلت للمصوتين شهرة تفوق شهرة الساسة والزعماء، بل صار لهم نفوذ على جماهيرهم يحسب له النظام السياسي حسابه.

والأداء الغنائي يختلف من عصر الى عصر، ومن شعب الى شعب، بل من جيل الى جيل. وبصرف النظر عن التعبير العاطفي للغناء، فهو ايضا تعبير فني عن نفسية ومزاجية وذوق شعب او عصر أو جيل.

وربما لا يدرك المصوِّت المحترف (المغني والمطرب) انه حالة اجتماعية وسياسية. بل ربما لا يدرك، كما هي حال بعض مطربينا ومطرباتنا في هذه الأيام، ان صوته نوع من الزيف «مفروض» اجتماعيا وشعبيا، تماما كما هو الزيف المفروض في التصويت والاقتراع السياسي.

كان بينغ كروسبي في أدائه الهادئ اللامبالي تعبيرا عن أزمة الركود التي طحنت المجتمع الاميركي في الثلاثينات بلا رحمة. ثم جاء فرانك سيناترا بصوته المبحوح ليعبر عن احزان حرب عالمية، وعن رومانسية عالم حزين تائق للحب والسلام بعدها. وعلى الضفة الاوروبية للاطلسي انطلق صوت اديت بياف كالزئبق الرجراج محاكيا فورة الحوار الايديولوجي الحار الذي عرفته مقاهي الستينات والخمسينات الباريسية.

نعبر زرقة المتوسط اللازوردية الى ضفته الجنوبية لنشهد صوت وأداء محمد عبد الوهاب وأم كلثوم يسيطران على اجيال عربية جديدة شديدة التناقض والاختلاف. كان عبد الوهاب في تجديده يمثل الوعي الجديد الرافض للقديم. أما أم كلثوم فقد استمرت على مدى نصف قرن مجسدة مشاعر وعواطف اجيال ملتصقة بقرون البلادة الفكرية والعذاب العاطفي بكل تأوهاته.

بين هذين العملاقين تظهر اسمهان لتعبر بصوت مفعم بكبرياء الحزن النبيل عن جيل يستعجل التغيير ويعيش مخاض الانتقال من عصر الى عصر. وحتى في حياتها القصيرة العاصفة وبموتها الدرامي المفاجئ عكست خيبة أمل هذا الجيل.

وكان فريد الاطرش سيناترا العرب بأغانيه العاطفية التي جعلته منازعا خطيرا لعبد الوهاب. لكن رومانسية الفنانين الكبيرين ما تلبث ان تفسح في المجال امام فنان لجيل آخر.

قدم عبد الحليم حافظ بصوته العريض جيلا آخر، جيلا عربيا أكثر جرأة ورجولة وتسيسا من رومانسية جيل عبد الوهاب وفريد. وعثر في بليغ حمدي على الملحن الذي وضعه في صميم الفولكلور الشعبي المصري والعربي، في وقت كانت أم كلثوم تحاول ان تمد عمرها الفني وحضور جيلها القديم، بالوصل مع ملحنين اكثر شبابا من القمم التقليدية التي مثلها القصبجي وزكريا أحمد والسنباطي.

عوضت فيروز عن غياب اسمهان، لكن بشخصية فنية مستقلة تماما رسمتها لها عبقرية الرحابنة. وفيروز في اللاوعي تعبير عن صعود المارونية السياسية في لبنان، لكن مارونية الرحابنة كانت ذات بعد عربي وقومي منفتح.

كانت اغاني فيروز القصيرة بمثابة «ساندويش» لجيل عربي «مودرن» جدا، لكنه غير «ساندويش» الطعمية والفول. «فساندويش» فيروز سريع ومغذ وممتع بحلاوة الموسيقى وفصاحة الشعر ورقة العامية بلا ابتذال لها.

وجاء الرحباني الصغير ليخطف فيروز من قريتها الجبلية الرومانسية الغارقة في القمر والورد والبراءة، ليغرسها في صميم المدينة بصخبها وزحامها، حيث يضيع حبيبها عنها سنين فتعاتبه (مَلاَّ إنت)، وحيث يضيق خلقها بـ (الصبي) ابن المدينة اللاهي الذي (لا يفهم عربي). انها فيروز التي تتربع اليوم في شباب صوتي مدهش على قمة الغناء العربي بلا منازع، فتنسينا أنها تقترب من عامها السبعين.

عبَّرت ثورة الخمسينات والستينات الجنسية في الغرب عن نفسها وجسدها الثائر في غناء الـ (روك آند رول) ورقصه، فقد قلبت فرقة الخنافس (البيتلز) البريطانية قواعد الغناء والموسيقى بوقع سريع الحداء، صاخب الموسيقى المتقطعة الكترونيا بجمل قصيرة لا علاقة لها بالطرب. واستمر هذا اللون الغنائي الصاخب مع الفيس بريسلي ومايكل جاكسون ومادونا وغيرهم، تعبيرا عن فوضى هذا العالم، وعن اجيال ترفض كل صلة مع المجتمع القديم وقيمه.

ولم يصب العرب بعدوى الـ (روك آند رول) لأسباب عدة، فهم لم يعرفوا ثورة جنسية محاكية للتحرر الجنسي في الغرب، وحالت ملكية الدولة للإذاعة والتلفزيون آنذاك دون تسلل هذا الغناء والموسيقى اللذين اعتبرا رسميا «ماجنين» أو غير مألوفين. كذلك ظلت مؤسسات فنية شاهقة كعبد الوهاب وأم كلثوم وفريد وعبد الحليم مسيطرة، بمدارسها الفنية، على الذوق الاجتماعي العام.

في التسعينات العربية، حدث تحول كبير في الذوق الفني والاجتماعي. فقد فرض الجيل الشبابي الجديد الذي يشكل عدديا ثلاثة ارباع العالم العربي نفسه وذوقه وفهمه على الفن الغنائي تعويضا عن حرمانه من المشاركة السياسية.

وظهر ما بات يعرف الآن بـ «الأغنية الشبابية» التي تستهوي ملايين الشباب العرب الذين لم تعد لهم معرفة او علاقة مع مدرسة العمالقة، فباتت هذه المدرسة من رومانسيات الغناء التي يتذوقها ويستعيدها جيل شاخ ويوشك على الرحيل.

ولعلي لست مخطئا اذا قلت ان الجزائريين عبر اغاني «الري» المطعَّمة افريقيا واوروبيا هم عرابو «الأغنية الشبابية» الشائعة بموسيقاها السريعة ذات الوتيرة الواحدة الأقرب الى الرقص منها الى الغناء والتطريب.

وهكذا، فقد بات للعرب ايضا (روك آند رول) في اغنية شبابية تؤديها أصوات متواضعة فنيا، وتغطي ضحالة ادائها بأجساد متمايلة وراقصة مع موسيقى أكورديونية وطبلة ودربكة وتصفيق. كل ذلك على ايقاع سريع رتيب في ضرباته ونغماته يحاكي رغبة جيل اجتماعي شديد العجلة والتوتر والأمل... واليأس، جيل اكثر تحررا واشد حرمانا.

هل تشكل «الاغنية الشبابية» ترديا في الذوق الاجتماعي العام، أم هي ظاهرة شبابية طبيعية معبرة عن اختلاف الأجيال؟

لا شك، فهي مخالفة صريحة لجمالية غناء وموسيقى وصلا ذروة تطورهما وابداعهما مع جيل العمالقة. واحسب ان تردي الذوق الاجتماعي العام ناجم عن ديمقراطية التربية التي امتدت بالتعليم افقيا ليشمل عشرات الملايين، دون ان يحفز فيها رهافة الحس الجمالي بالأدب والفن والثقافة.

الديمقراطية الفنية تعبر عن ذاتها على ألسنة ملحنين ومطربين متواضعي الموهبة: «الجمهور عايز كده». وكان سهلا عليهم تصدير «الأغنية الشبابية» الرتيبة لحنا والفقيرة اداء الى جمهور شبابي راقص مأخوذ بالجسد والصورة في «فيديو» رخيص الثمن، أكثر مما هو قادر على الاستمتاع بفن اصيل بات عنده «دقَّة قديمة».

تدهور الذوق الاجتماعي العام في احساسه الفني والجمالي لا يعني اعتبار «الأغنية الشبابية» ظاهرة مرضية، فالاختلاف بين الأجيال يفرض ايضا الاختلاف في النظرة الى الفن. فلكل جيل رأيه وموقفه وفكره وفنه... وغناؤه.

والحسرة على ما يعتبره الجيل القديم ترديا في الذوق العام يجب ان لا تفرض محاربة «الأغنية الشبابية». فقمعها قمع فني واجتماعي لجيلها بقدر ما هو مقموع فكريا وسياسيا.

كل ما نستطيع ان نفعل هو أن نحاول تطوير «الأغنية الشبابية»، والاغنية الخليجية التي يتجاوب معها السمع من الخليج الى المحيط مساهمة فنية رائعة في مجال هذا التطوير، فهي اغنية شبابية «مودرن» في ادائها وموسيقاها، ولم تفقد «يا طيب القلب» عذريتها وبراءتها، كما فعلت الأغنية الشبابية اللبنانية الخارجة من تحت ركام حرب أهلية مروعة، أو الاغنية المصرية التي تلهث محاولة تقليد اللبنانية، بعدما فقدت في ربع الساعة الأخير كبار ملحنيها ومطربيها.