قصة الصحافة في مصر

TT

احتفلت صحيفة «الأهرام» بمرور 125 عاماً على صدور عددها الأول وسجلت بذلك سبقاً تاريخياً على جميع الصحف اليومية التي مازالت تصدر حتى اليوم. ولكن «الأهرام» لم تكن أول صحيفة تصدر في الوطن العربي، وهو أمر يغري بالكتابة عن قصة الصحافة في مصر.

الأمر يعود إلى نهاية القرن الثامن عشر عندما دخلت الحملة الفرنسية مصر عام 1798، وأقامت ديواناً للقضايا يرفع إليه ما يقع بين المصريين من أحداث يتم نشرها بعد ذلك في صحيفة اختاروا لها اسم «التنبيه» وكانت أول صحيفة تصدر في الوطن العربي عام 1800. وقد تولى أمرها شيخ من خريجي الأزهر الشريف هو الشيخ اسماعيل الخشاب الذي استعان به الفرنسيون حتى خرجت الحملة الفرنسية وتوقفت صحيفة «التنبيه».

وكان المماليك والدولة العثمانية في مصر لا يهتمون بالمطبعة كوسيلة لاصدار الصحف، وانكبوا على حياتهم الخاصة بعيداً عن حضارة العالم التي أشرقت بظهور الصحافة مع بداية القرن السادس عشر في كل من انجلترا وفرنسا وألمانيا وهولندا وغيرها من دول أوربا.

ولذا كان دخول المطبعة في خدمة الصحافة مع الحملة الفرنسية حدثاً حضارياً، وكان ظهور «التنبيه» نقلة في عالم المعرفة. ولم تصدر في مصر صحيفة أخرى إلا عام 1827 عندما أصدر محمد علي نشرة شهرية باسم «جورنال الخديوي»، ما لبثت أن تحولت عام 1828 إلى جريدة «الوقائع المصرية» التي جعلها لسان حال الحكومة والتي مازالت تصدر حتى اليوم.

وإذا رجعنا لقصة الصحافة في مصر فإنه يجب أن نحتسب الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في عداد الصحفيين العرب الأوائل، ذلك لأن كتابه التاريخي المسمى «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» كان بمثابة صحيفة يومية، لأنه دون فيه الأحداث يوماً بيوم، وهو بذلك يعتبر أول عربي مارس الصحافة ممارسة فعلية قبل نشوء الصحافة الحديثة بربع قرن تقريباً.

صدرت «الوقائع المصرية» في وقت لم يكن فيه الأدب مزدهراً، وأسلوب الكتابة يجنح في وضوح إلى السجع، واللغة التركية تهيمن على السلطة والدواوين.

حاول الشيخ حسن العطار بأدبه الرفيع وجديته أن يؤثر في «الوقائع المصرية» ولكن صاحب الفضل الأوضح والأكبر في هذا المضمار كان الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي الذي أوكل إليه الاشراف على «الوقائع المصرية» بعد أن أصبح الشيخ حسن العطار شيخاً للأزهر.

والشيخ رفاعة رافع الطهطاوي علم من أعلام الثقافة في مصر، حمل إليها من باريس كل ما وقعت عليه عيناه من رؤية أو فكر، فأصدر كتابيه «تخليص الابريز في تلخيص باريز» و«مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية».

وعن طريق الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي عرف المثقفون المصريون نظم الحكم الغربية، وأطلوا على حضارة العصر، وتبينوا معالم الديموقراطية.

وعن طريق «الوقائع المصرية» عرف الشعب المصري الصحافة العصرية، وساعد الطهطاوي على تحويلها من جريدة رسمية جامدة إلى صحيفة تنشر الأبحاث والمجادلات والمقالات المترجمة.

فتح الخديوي اسماعيل بعد ذلك صفحة جديدة في حياة مصر، وفي حياة الصحافة أيضاً. كان يعمل من أجل أن تصبح مصر قطعة من أوربا على حد قوله، فيطوي صفحة الردة التي عاشها الشعب بعد عهد محمد علي، ويضيء المجتمع بالتعليم والثقافة.

وأصدر صحفاً حكومية أخرى في مجالات شتى: يعسوب الطب، والجريدة العسكرية المصرية، وجريدة أركان حرب الجيش المصري ثم روضة المدارس للتلاميذ.

ولم يقف التطور الصحفي عند حدود سلطة الدولة. وظهرت في تاريخ مصر الحديث الصحافة الشعبية لأول مرة، البعض منها كان بتشجيع من الخديوي اسماعيل ورعايته الأدبية والمادية مثل «وادي النيل» التي كانت تصدر مرتين في الأسبوع، «وروضة الأخبار».

وأراد الخديوي اسماعيل أن يشكل رأياً عاماً في مصر يشجع على التحلل من القيود والفرمانات التي كان يصدرها السلطان، ويمهد الطريق لمزيد من الاستقلال، فوجد الصحافة هي الوسيلة المناسبة لذلك تنويراً للرأي العام المحلي أولاً، واظهاراً للسلطان التركي بأن في مصر رأياً عاماً معارضاً ثانياً وتهيئة الرأي العام الأوربي باحتمال اتخاذ أية خطوات استقلالية.

ومن أبرز الصحف المصرية التي ظهرت في ذلك الوقت «أبو نضارة» التي أصدرها يعقوب صنوع الذي أطلق عليه الخديوي اسماعيل لقب «موليير مصر» لبراعته في الفن المسرحي. ويلاحظ أن هذه الصحيفة كانت أكثر الصحف توزيعاً، فقد بلغ توزيعها عدة آلاف من النسخ، بينما كانت الصحف الأوسع انتشاراً لا توزع أكثر من 500 أو 600 نسخة.

وهكذا ازدهرت الحياة الصحفية في مصر، وظهرت جريدة «الوطن» أول صحيفة قبطية لصاحبها ميخائيل عبد السيد، وكانت تطبع في مطبعة البطريركية القبطية التي كانت قد استوردت مطبعة خاصة.

وعندما أجبر الخديوي اسماعيل على مغادرة مصر وتولى الأمر الخديوي توفيق بدأت تظهر صحافة معارضة مثل «التنكيت والتبكيت» التي أصدرها خطيب الثورة العرابية عبد الله النديم الى جانب صحف كانت تصدر من الخارج مثل «العروة الوثقى» التي أصدرها الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.

وعندما دخل الاحتلال البريطاني مصر عام 1892 عبر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي عن ذلك بقوله إنها فترة انحطاط القوى اجتاح البلاد فيها شيء أشبه ما يكون باليأس.

واتبع الانجليز أسلوباً عبر اللورد كرومر بقوله «اذا وضعت الصمام على المرجل اتفجر أما اذا تركت البخار طليقاً فإن سلامة المرجل مضمونة».

واعتمد الاحتلال البريطاني على اصدار صحف خاصة مثل جريدة «المقطم» التي اصدرها يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس والتي نشرت صراحة على صفحاتها «ان الغرض السياسي من تأسيسها معلوم وظاهر، وهو تأييد السياسة الانجليزية».

وهنا يجب أن نشير إلى تدفق عدد من الكتاب والصحفيين من أهل الشام هرباً من تعسف الامبراطورية العثمانية وقد لعبوا دوراً رائداً في اصدار وتطوير الصحافة المصرية، ووقفوا الى جانب الشعب المصري في نضاله ضد الاستعمار.

وبلغت الصحف التي كانت تظهر مع بداية القرن العشرين حوالي 160 صحيفة أشهرها «المؤيد» للشيخ علي يوسف ممثلة «حزب الاصلاح» ثم تبعتها عام 1900 صحيفة «اللواء» التي أصدرها الزعيم مصطفى كامل.

وأصبحت الصحافة الحزبية تلعب دوراً بارزاً في مصر خاصة مع اشتعال ثورة 1919 وتكوين «الوفد».

واستمر الأمر كذلك الى أن قامت ثورة 23 يوليو التي أصدرت مجلة «التحرير» التي كان لي شرف اصدارها ورئاسة تحريرها وظهرت في 16 سبتمبر 1952 وتبعتها جريدة «الجمهورية» التي رأس تحريرها أنور السادات ثم صلاح سالم، وجريدة «المساء» التي رأس تحريرها خالد محيي الدين.

ظهرت هذه الصحف الجديدة الى جانب الصحف التي كانت قد احتلت مكانتها في العهد السابق، واستمر الأمر الى عام 1961 عندما صدرت قرارات تنظيم أو تأميم الصحافة لتبدأ مرحلة جديدة في حياة الصحافة المصرية، وهي مرحلة لها قصة أخرى.