الدولة والإسلاميون والشعبويات المتجددة

TT

طالعتنا أخبار تركيا في الأيام الأخيرة، بالمزيد من الاتهامات لجنرالات سابقين، بالمشاركة في مؤامرة للقيام بانقلاب على الحكومة المنتخبة لحزب العدالة والتنمية قبل سبع سنوات أو أكثر. وكانت المحكمة الدستورية العليا قد حاولت قبل شهور التوصل إلى وقف للتحقيقات في القضية المستمرة، بحجة أن العسكريين لا تجوز محاكمتهم أمام محاكم مدنية في المسائل المتعلقة بأمن الدولة. لكن ذلك لم ينفع، لأن القضية منظورة الآن أمام القضاء. والمشهور عن النظام التركي في السنوات الأخيرة، أن المؤسستين الباقيتين اللتين «تقاومان» استتباب الأمر للإسلاميين هما: الجيش والمؤسسة القضائية. وقد جرى التحقيق حتى الآن في المؤامرة مع مئات من الموظفين والضباط الكبار، وكلهم صاروا الآن سابقين. وفي حين يقول الصحافيون والسياسيون الليبراليون إن عهد الانقلابات ولى وانقضى، ولا تصح العودة إليه من فوق رؤوس الناس، يذهب القوميون والعلمانيون إلى أن العلمانية هي دستور الدولة التركية ونظامها، والإسلاميون من حزب العدالة يحاولون الالتفاف عليهما، مستنصرين بوقوف فئات شعبية واسعة إلى جانبهم في الانتخابات على مدى سنوات العقد الماضي. ويجيب الصحافيون وبعض الليبراليين بأنه لا خوف على الدستور أو النظام، مع أن الصلاحيات المبالغ فيها للجيش والقضاء بمقتضى الدستور؛ إنما مستندها دستور عام 1980 الذي وضعه الجنرال كنعان أفرين، بعد أن كان قد قام بانقلاب أسقط من خلاله الحكومة الديمقراطية المنتخبة آنذاك.

فما الذي يحصل اليوم بالفعل في تركيا؟ وما مستقبل النظام التركي، في مهب الشعبوية الإسلامية المستمرة في التصاعد في تركيا وغير تركيا؟ لقد أقام العلمانيون الأتراك خلال السبعين عاما الماضية، نظاما علمانيا قويا في تركيا، فصل فصلا قاسيا بين الدين والدولة، واستعدى فئات واسعة من المتدينين الأتراك. لكن هذا النظام نفسه أقام مؤسسات للمساءلة والمحاسبة، وحقق استقرارا افتقرت إليه بلدان إسلامية كثيرة، صغيرة أو كبيرة. وبعد كل انتخابات يشعر خلالها الجيش أن الكفة توشك أن ترجح لصالح الإسلاميين؛ فإن القادة كانوا يتدخلون بتعطيل الدستور والبرلمان وإسقاط الحكومة؛ والبقاء في السلطة لفترة، تعود بعدها الانتخابات والحياة المدنية السياسية على استحياء. حدث ذلك علنا أربع مرات وبضغوط خفية عدة مرات أخرى. وهكذا، ما استطاعت العلمانية التركية الصمود تبعا لإرادة الناس أو الناخبين؛ وإنما صمدت من طريق العسكر والقضاء، واللذين ما يزالان يحميانها حتى اليوم أو يحاولان ذلك! والواقع أن أحدا من العسكريين بتركيا ما عاد يجرؤ على التفكير في الانقلاب وسط الظروف الإقليمية والعالمية. إضافة إلى أن حكومات حزب العدالة والتنمية حققت نجاحات باهرة على المستويين الاقتصادي والسياسي. ثم إنها استطاعت تطوير أكثريتها عبر ثلاثة انتخابات حرة وشفافة. وما حققت كل طموحاتها ذات البعد الديني أو المحافظ (مثل مسألة الحجاب)، لأن المؤسسة القضائية منعتها من ذلك. وليست هناك شواهد قوية على أن الإسلاميين الأتراك يملكون برنامجا سريا لإلغاء العلمانية، لكن من جهة ثانية فإن الشعبية الهائلة التي يملكونها تظل شاهدا على ما يمكنهم القيام به، إن أرادوا، من تغيير للدستور، إلى تحديد لصلاحيات الجيش ومؤسسات القضاء العلمانية.

هناك إذن محنة أو مشكلة. فالنظام العلماني القائم، بمؤسساته القوية والمستقرة حتى الآن، ما عاد يحظى في كثير من أعرافه وأنظمته بثقة أكثرية الناس. لكن من جهة أخرى فإن هذا النظام العلماني هو الذي يجعل العالم الغربي يطمئن للنظام التركي، الذي اعتمد عليه طويلا في استقراره، وهو ما يزال يعتمد عليه اليوم إلى حد كبير. فكيف يمكن التوفيق بين المؤسسات الدستورية (الديمقراطية؟) من جهة، والإرادة الشعبية المتنامية للتغيير تحت شعار الإسلام المعتدل؟ وهل هذه الحالة فريدة وخاصة بتركيا والعالم الإسلامي، أم هي حالة لها مثيلاتها في العالم الأوسع؟

في العالمين العربي والإسلامي، أو في دول كثيرة منهما، يشكل الإسلاميون خط المعارضة الرئيس؛ في حين تزداد شعبية الأنظمة المنتخبة أو غير المنتخبة تضاؤلا وهشاشة. وتركيا استثناء من حيث قدرة حزب إسلامي على الوصول للسلطة من خلال انتخابات حرة. والذي مكن من ذلك النظام العلماني لتركيا بالذات؛ في حين لا يملك الحزبيون الإسلاميون أي إمكانية أو مشروعية في أكثر البلدان.

لكن هناك من يقول إن هذه «الشعبوية»، إسلامية أو غير إسلامية، ليست خاصة بتركيا أو بالعالم الإسلامي. ففي كثير من بلدان أميركا الجنوبية والوسطى، هبت موجات شعبوية، أوصلت للسلطة رؤساء شعبويين (في ثمانية بلدان حتى الآن)، فغيروا الأنظمة والدساتير، وحاولوا ويحاولون تخليد أنفسهم في السلطة. وعلى الرغم من محاولاتهم تلك؛ فإن بعضا منهم ما تزال له شعبية جارفة بين الفئات الشعبية الفقيرة؛ وخارج كل دستور أو عرف. والشاهد أنه باستثناء البرازيل؛ فإن أوضاع بلدان الشعبويين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليست على ما يرام، ولا ينتظر أن تتحسن رغم الشعبية الكبيرة للرئيس أو للرؤساء الذي انتخبوا لمرة واحدة وهم لا يريدون مغادرة الكرسي من طريق تغيير الدستور للبقاء في السلطة مهما كلف الأمر.

وكان فريد زكريا محرر «نيوزويك» قد كتب قبل عدة سنوات عن هذه المحنة أو الأزمة كما قال، أي أزمة الديمقراطيات الجديدة، التي ما استطاعت الصمود، لأن الناس لا يشعرون أن أحوالهم تحسنت بما فيه الكفاية في ظلها؛ ولذلك يلجأون إلى نموذج البطل والمنقذ ونصير الفقراء وهو في الغالب جنرال سابق، حاول من قبل القيام بانقلاب، ثم وصل للسلطة في الحقبة الجديدة بالانتخاب. لكن فؤاد زكريا عاد فناقض نفسه، عندما تحدث في فصلين من كتابه عن «الاستثناء الإسلامي». فبعد أن ذهب إلى أن الشعبويات في أميركا اللاتينية وشرق أوروبا والبلقان تهدد الديمقراطية وحكم القانون؛ قال إن شعوب العالم الإسلامي لا تظهر ميلا قويا للديمقراطية من طريق الدفع باتجاه التغيير والانتخابات الحرة. لكنك تقول أيها الأخ إن الديمقراطية (الحقيقية) مهددة في أجزاء كثيرة من العالم بالشعبويات، أي الجماهير التي لا تهمها الانتخابات، والإرادة الحرة، بقدر ما يهمها العيش بالحد الأدنى في ظل القائد المنقذ!

فلنعد إلى تركيا وإلى التهديد المستمر لحكومتها المنتخبة. الوضع في تركيا معكوس. فالشعبويون، بحسب المقياس السابق هم في السلطة، وليسوا في المعارضة. وقد وصلوا إليها بانتخابات حرة، وتكرر فوزهم مرتين أو ثلاث مرات. وفي كل انتخابات تزيد أكثريتهم عن الانتخابات السابقة. وقد أنقذوا الاقتصاد من الانهيار، ورفعوا ملايين الأتراك من تحت خط الفقر. والذين يعارضونهم هم رجالات الجيش، ورجالات المؤسسة القضائية، وبعض القوميين المتطرفين. وهم يهددون بالتآمر وبانقلاب وليس بالانتخابات التي ما استطاعوا الفوز فيها من قبل. لكنهم - ومن الناحية النظرية - قد يستطيعون ذلك في الانتخابات القادمة، وبخاصة إذا نجحوا في تكوين تحالفات أو جبهة تضم فئات المتضررين من حكم «العدالة والتنمية». وهكذا، فلا وجاهة للدعاوى العريضة التي يطرحها خصوم الإسلاميين. لكن من جهة ثانية، وفيما وراء الفكرة السائدة عن الإسلاميين وعن مشروعهم للدولة الإسلامية الموعودة، ألا يمكن تصور الوصول إلى نوع من التوازن، مثل ذاك الموجود في تركيا، وما تقبله الجنرالات والقضاة بعد؟ وما أقصده، ألا يجوز أن نتصور لكثير من بلداننا: مؤسسات مدنية قوية للعدالة والمساءلة وحكم القانون، وحكومات منتخبة ذات ميول إسلامية أو شعبوية أو اشتراكية، تتداول على السلطة، ولا تستطيع تغيير الدساتير والقوانين والمؤسسات، كما لا تصغي لأوهام القائد والمنقذ؟!

فريد زكريا يقول إن ذلك غير ممكن إلا في البلاد ذات الديمقراطية العريقة والمؤسسات الدستورية الراسخة، مثل الهند مثلا، وربما تركيا (إن لم يحصل فيها انقلاب بالطبع!) فقد حكم الشعبويون اليمينيون الهند لعقد من الزمان، وفازوا خلاله مرارا في انتخابات حرة. وما استطاعوا - رغم أنهم حاولوا - تغيير الدستور، ولا السيطرة على أجهزة الأمن والمؤسسة القضائية. وفي النهاية خضعوا لحكم القانون، وخسروا الانتخابات وعاد حزب المؤتمر للسلطة. وهذا يعني أن وصول الشعبويين للسلطة في ديمقراطية جديدة، لا تملك المؤسسات المدنية الحامية والراعية والمحايدة؛ سيدفع زعماءهم للبقاء في السلطة أو محاولة ذلك، وعلى حساب كل القوانين!

قبل ثماني سنوات، كانت المؤسسة القضائية - ومن ورائها العسكريون - تحاكم رجب طيب أردوغان. وقبل ذلك أسقطت المؤسستان، العسكرية والقضائية، نجم الدين أربكان من رئاسة الحكومة، وزجتا به في السجن. بيد أن ذلك لم يجد نفعا. ووصل حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة، ورئاسة الجمهورية. والمطلوب من أردوغان الآن أن يتعلم الدرس، فلا يعمد لمحاكمتهم كما حاكموه، ولا إلى اتهامهم كما اتهموه. وهذا ليس عفوا أو فضيلة سياسية؛ بل هو حساب دقيق من أجل التوازن ومن أجل الاستقرار والاستمرار، وصنع النموذج الآخر لتركيا وللعالمين العربي والإسلامي.