العراق عام «985».. وعام «2010»

TT

المؤرخ والجغرافي والرحالة أبو عبد الله بن أبي بكر البناء، المشهور «بالمقدسي»، يتحدث في كتابه المعنون بـ«أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، عن العراق ويعتبره «أظرف» البلاد، ويمضي قائلا عنه: «وهو أخف على القلب، وأحد للذهن، وبه تكون النفس أطيب، والخاطر أدق، وهو أجل البلاد وأوسعها زراعة، وأكثرها علماء، وأكثرها إشراقا، وأكثرها صوفا وقزا ودخلا، وأجودها ألبانا وأعسالا، وألذها أخبازا، وأمكنها زعفرانا، وأكثرها ثمارا وأرخصها أسعارا ولحوما، وأكثرها أمنا وسلاما».

وقد وصف خالد بن صفوان البصرة - تحديدا - فقال عنها:

«إن منابتها قصب، وأنهارها عجب، وسماءها رطب، وأرضها ذهب».

هذا ما كنت أقرأه عن العراق ووصفه ووصف أهله في كتاب كتب في القرن العاشر، أي في 985 ميلادية.

هذه شهادة مؤرخ صاغها «لله في لله» قبل أكثر من ألف عام، من دون أن يطلب أجرا ولا شكرا، ومن دون أن يوضع السيف فوق عنقه ليزيف شهادته.

إذن هذا هو ما كانت عليه حال العراق في القرون السالفة، وقد يكون في الكلام شيء من المبالغة، إما لأن المؤرخ قد طاب له رغد العيش هناك فأفرط في الوصف، أو إن الحظ ساعده فاقترن بمحظية أو زوجة حسناء جعلت الحياة والصحراء في عينه لونها «بمبي». قد يكون ذلك، ولكن هذا قد يكون بالتفاصيل، أما الواقع في جوهره فهو مثل ما ذكر.

على أية حال، لا أستطيع أنا أن أحكم على العراق منذ نشأته في بدايات القرن العشرين، ولكنني أستطيع أن أكون عنه انطباعي من أول ما وعيت على الدنيا سياسيا واستطعت أن أتتبع الأخبار واستفسر عنها - أي في عام «1958» - وذلك عندما قامت ما تسمى بثورة «تموز». ومنها إلى هذا اليوم الذي أخط فيه هذه الكلمات، لا ذكر أنه مرت سنة واحدة وكان فيها العراق ينعم بالأمان أو السلام، فمن انقلابات، إلى مؤامرات، إلى إعدامات، إلى حروب، إلى احتلالات، إلى هجرات، إلى اغتيالات، إلى تفجيرات، إلى مقابر جماعية، إلى غازات، إلى مظاهرات، إلى تناحرات طائفية، وإلى، وإلى، وإلى.. ولكن إلى متى «إلى»؟!

الله وحده هو الذي يعلم؛ لا أنا، ولا القارئ العزيز، ولا حتى «ضاربات الودع».

فأيهما أفضل؛ العراق سنة «985» أم العراق سنة «2010»؟!

وهل ما زالت منابت البصرة قصبا أم مزابل وأحراشا ترتع فيها الهوام؟! وهل ما زالت أنهارها عجبا من صفاء مائها، أم من تلوثه الذي يصعب حتى على البهائم أن تشربه؟! وهل ما زالت سماؤها رطبا من كثرة النخيل وعذوقها المتدلية بالتمر، أم إن السماء يلفها على مدار العام الغبار الذي يزكم الأنوف ولا يرحم؟!

وهل ما زالت أرضها ذهبا؟! نعم ما زالت أرضها ذهبا، ولكن ما فائدة الذهب إذا كان قابعا تحت أقدام فئات يخون بعضها بعضا، وتتقاتل، وكل فئة تريد أن تستأثر به من دون الفئة الأخرى، تاركة الشعب يضع يده على خده واليد الأخرى على قلبه، يراقب هذه المعركة «السخيفة الهزلية»، والخوف والفقر والمرض ينهشه، وما من سامع ولا مجيب. ورحم الله السياب عندما قال في أواخر حياته: «ما مر عام إلا والعراق فيه جوع».

اعذروني إن كنت خرجت عن المألوف في كتابتي هذا اليوم، فقراءتي «للمسعودي» هي التي هيضت مشاعري وجعلتني أخرج عن طوري قليلا أو كثيرا.

[email protected]