السكر الافتراضي

TT

سافرت كثيرا وطويلا في القطارات. غرب أوروبا وشرقها وجنوبها. وكان ذلك زمن السفر في الدرجة الاقتصادية، زمن النوم طوال الليل على شيء بلاستيكي يُطوى كمقعد ويبسط كسرير والوسادة راحة اليد، اليسرى أو اليمنى. وكان رفاق السفر بسطاء الأرض وطلابها وعمالها والشباب الذي يطحن شبابهم القسوات طحنا ويعجنها عجنا ويحول كل شيء إلى ابتسامة وثرثرة ورحلات في كل اتجاه، دون هدف، بحثا عن أفق يبتعد كلما اقتربت إليه.

كنت تسمع في القطارات والمقطورات ومحطات الانتظار جميع أنواع الحكايات. وترى الأمم والشعوب وطرائق العيش. وكتبت مرة عن مجموعة من الطلاب يتحلقون حول قالب ضخم من جبنة القشقوان في محطة قطارات زغرب. وبعد سنوات التقيت في الكويت مستشرقا يوغوسلافيا أخبرني أنه تولى ترجمة المقال لسلطات بلغراد، التي شعرت باستياء وكادت تحتج إلى حكومة لبنان. ثم تبين أنه يمكن الاحتجاج على الافتراء لا على الحقائق.

كنت أعيش دائما مشاعر مزدوجة. مع الفقراء وضد الذين يتسببون في فقرهم. ومع الأحرار وضد الذين يستبعدونهم ومع الضحايا ضد الظالمين والمجرمين والسفاكين. ولذا بدوت لأهل اليمين يساريا ولأهل اليسار يمينيا. وما كنت إلا واحدا في كل مكان وكل عقد: مع الإنسان والقيم الإنسانية والعدالة والإنصاف. وبكل بساطة وقناعة وقعت ضد كاسترو ومع سلفادور اليندي وضد مجازر هنري كيسنجر الذي استباح كمبوديا ولبنان وأمعن في إحراق فيتنام ثم أعطي جائزة نوبل للسلام وهو يفر مهزوما.

سمعت أخبار فقر كثيرة. خصوصا في أوروبا الشرقية. وقرأت أخبار فقر كثيرة. واعتقدت أن ما سمعت وقرأت هو أقصى ما سوف أسمع أو أقرأ. كنت متسرعا. كالمعتاد. إلى أن قرأت ما روته جدة روسية لحفيدها الذي هاجر إلى أميركا. أخبرته أن عائلتها كانت تعيش على الحدود الروسية - البولندية عندما حدث نقص شديد في السكر. ولم يبقَ في المنزل سوى قالب سكر صغير. فما كان من الأب إلا أن علق القالب فوق طاولة الطعام في المنزل. وطلب من الجميع أن يتأملوا قالب السكر وهم يتناولون الشاي مرا. وقالت الجدة: غريب. لقد أمضينا الشتاء ونحن نشعر بأن الشاي حلو.