الصحافة بين التأنيب والتبليغ

TT

وضع رقم 10 داوننغ ستريت، مقر رئيس الوزراء البريطاني، نفسه في حالة طوارئ وتأهب (دون الإعلان طبعا) منذ عطلة نهاية الأسبوع الماضي، بسبب بضع فقرات في كتاب طويل.

الكتاب بقلم الزميل أندرو رونسلي، المعلق السياسي في «الأوبزيرفر»، ذكر في فقرة فيه أن رئيس الوزراء غوردن براون، وضع مرؤوسيه في داوننغ ستريت في حالة من التوتر والرعب، بسبب سوء المعاملة والشخط والصياح في وجوههم.

بل ذكر رونسلي أن السير جص أودونول، وهو السكرتير الدائم لمجلس الوزراء و10 داوننغ ستريت، والرئيس الفعلي لجهاز موظفي الدولة، التقى في اجتماع خاص برئيس الوزراء، وذكره بضرورة التهدئة من ثائرته، وعدم تهديد مرؤوسيه ومعاملتهم بلطف ورقة.

ولتوضيح التركيبة الوظيفية للحكومة والدولة للقراء الأعزاء، فإن الجهاز الذي يتبع السير جص من موظفين دائمين يتبعون التاج، الدولة، وهم ثابتون لا يتغيرون، بينما الحكومة تتغير مع كل انتخابات.

فجميع الوزراء تقريبا (باستثناءات قليلة كاللورد تشانسللور - المقابل لوزير العدل، بصلاحيات أوسع) منتخبون ويتغيرون بتغير الحكومة من عمال إلى محافظين والعكس.

والسير جص وزملاؤه في المنصب ينظمون العمل الإداري والعلاقة بين الحكومة والدولة مع تغيير الحكومة.

مقابلة السير جص، حاول براون، عبر مستشاريه الذين يتقابلون معنا، الصحافيين، مرتين في اليوم، تجنب تحديد حدوثها من عدمه، حتى صرح بها كبير موظفي الدولة نفسه للجنة برلمانية.

السير جص كان يشرح للجنة آلية العمل في حالة انتهاء الانتخابات في مايو (أيار) من هذا العام، ببرلمان معلق ليس فيه أغلبية مقاعد لأحد الحزبين.

وهو أمر ليست له سوابق كثيرة، لأن دستور المملكة المتحدة ليس مكتوبا ومدونا في وثيقة كمعظم أمم العالم.

الدستور مجموعة من القرارات البرلمانية والمراسيم الملكية وسابقات وقعت، منذ توقيع الملك جون (1166 - 1216) لـ«الماغنا كارتا»، أو وثيقة الحرية العظمى في 1215، وحتى التعديل الأخير الذي يتم حاليا في تنظيم مجلس العموم، مرورا بوثائق وقعت وخطابات متبادلة وحروب أهلية، وأخرى يكشف عنها.

وفي حالة البرلمان المعلق، يتولى السير جص وجهازه إدارة الدولة وشؤونها في الأيام التي تتم فيها المحادثات الجانبية، تحت إشراف رئيس جهاز الدولة (أي السير جص حاليا) مع زعماء الأحزاب والكتل، ويقدم التقرير لجلالة الملكة لتدعو أحد زعماء الأحزاب الفائزة بالعدد الأكبر دون الأغلبية لتشكيل الحكومة؛ أو زعيم الائتلاف الذي قرر الجهاز أنه الأقدر على تكوين ائتلاف برلماني قادر على الاستقرار، وهي الكلمة السحرية في القرارات.

في عام 1974، أجريت الانتخابات مرتين، في مارس (آذار)، ثم أكتوبر (تشرين الأول)، بسبب البرلمان المعلق في كلتيهما، وكان لجهاز الدولة الدور الكبير في المساعدة على تكوين الائتلاف بين العمال والأحرار.

ولذا فإن اجتماع رئيس جهاز الدولة برئيس الوزراء لتأنيبه، يعني أن السير جص يؤنب رئيس الحكومة باسم جلالة الملكة، رأس الدولة، ورأس الكنيسة، ورأس الكومنولث، حيث أكبر تجمع بشر من الديمقراطيات في التاريخ.

وليتخيل القارئ مدى الثقل المعنوي والأخلاقي الذي يمثله هذا التأنيب على رئيس حكومة يستعد لخوض الانتخابات بعد شهرين أو أقل، بينما تنخفض شعبيته عن شعبية زعيم المعارضة ديفيد كاميرون.

وما زاد الطين بلة، أن كريستين برات، رئيسة مجلس الإدارة ومؤسسة خط العون التليفوني للمتعرضين لسوء المعاملة من رؤسائهم في العمل، أدلت بدلوها في الجدل محدثة انفجارا مدويا ساعة ارتطامه بالمياه السياسية، حيث أعلنت أن عددا من العاملين في داوننغ ستريت اتصلوا بمؤسستها يشتكون من رئيس الحكومة.

وقد أرسل تصريحها بقشعريرة في العمود الفقري لحكومة العمال بزعامة براون، لدرجة أن وزير الهجرة والجنسية، فيليب والاس، خرج عن المألوف، وأشار إليها بألفاظ لا تليق في مقابلة إذاعية.

المدام برات، أجبرها مجلس أوصياء المؤسسة على الاستقالة، ليس حبا في رئيس الوزراء، وإنما لكسرها عهد الصمت الذي تقطعه المؤسسة لكل من يتصل بها بأن تظل الشكوى وتفاصيل الشاكي وظروفه ومحل عمله سرا أمينا لا يباح به.

وحتى ساعة كتابة هذه السطور صباح أمس، والموضوع لم يغادر الصفحات الأولى، بينما ظل المكتب الصحافي وجهاز المعلومات لداوننغ ستريت يلعب معنا لعبة القط والفأر، محاولا تقليل الخسائر السياسية التي تعرض لها رئيس الحكومة.

وقبل أن أصل للحكمة المستخلصة من هذه التجربة بما يفيد قراء «الشرق الأوسط»، أنبه للحيرة التي أصابتني من غياب الصحافيين العرب (حتى من حملة الجنسية المزدوجة ودافعي الضرائب هنا الذين سيتأثرون مباشرة من شكل الحكومة القادمة) عن التحقيق في الموضوع وعدم حضورهم أيا من التحقيقات العلنية المفتوحة.

والأغرب أن عددا من الصحافيين الذين يدافعون ببسالة عن الديمقراطية والتمثيل النيابي، ويدعون بلدانهم الشرق أوسطية إلى احتضانها، لم أر بين اللندنيين منهم أحدا يحضر اللقاءات الصحافية التي تمت بشأن الموضوع.

أعود هنا إلى الحكمة المستخلصة، وهي أن الصحافة، كسلطة رابعة دستورها الملزم والملتزم به هو حرية التعبير الكاملة بلا قيود أو رقابة داخلية أو ذاتية، هي التي تولت محاسبة رئيس الوزراء على أدائه، وسوء معاملته المزعوم في كتاب الزميل رونسلي بعنوان «End of the Party» والكلمة تعني الحفلة، ومهرجان الأكل والشرب المرح، وأيضا الحزب السياسي، والمعنى المقصود نهاية فترة حزب العمال في الحكومة على يد زعمائه.

بل وتولت محاسبة ومساءلة مستشاري رئيس الوزراء في لقاءاتهم معنا، وكأنهم في مهمة تفتيش من القرون الوسطى.

المناخ الديمقراطي يفرز نظام تعليم راقيا بخريجين يشغلون الصحافة.

مناخ الديمقراطية يفرز تلقائيا سلطة رابعة مسؤولة تحاسب، باسم الرأي العام، الحكومة وممثلي الشعب، وبدورها تغذي الديمقراطية فتنمو، وبدورها تنقل التفسير القانوني الديمقراطي للأحداث لصاحب وسيلة الإعلام الحقيقي، وهو القارئ والمستمع والمتفرج (فهو من يدفع مرتب الصحافي في النهاية) وتتسع دائرة الإحساس بالمسؤولية، والمزيد من الشفافية، في تركيبة معقدة يستحيل معها ظهور الديكتاتورية.

أما الديكتاتوريات، سواء بحكم العسكر أو العقائد الشمولية، ففاسدة بطبيعتها فتفسد المؤسسات، وتصبح السلطة الرابعة بروباغندا تغذي الفساد بعده.

وأكثر من كاتب في صحف عربية مؤثرة كانوا يمطروننا بوابل من المقالات عن الديمقراطية، بينما أصروا على مجاورة مكتبهم لفاكس تلقي الأخبار.

يتلقفون بيانات المعارضة لديكتاتوريات فاسدة، إحداها شمال أفريقية، وأخرى مشرقية، على سبيل المثال لا الحصر، ويسرعون بتحذير الجهاز الأمني المختص لحماية «الزعيم» الثائر قبل نشر الخبر بـ24 ساعة.

والمكافأة؟

مائة ألف دولار نقدا أو كوبونات بترول يعاد بيعها بنصف الثمن نقدا، وتختفي الأدلة المادية عن الفساد المتبادل بين السلطة الديكتاتورية والسلطة الخامسة والسادسة والسابعة، و«العدد في الليمون» حسب المثل العامي.