البصرة: سنوات العطش

TT

البصرة ثاني أكبر مدن العراق، والمنفذ الوحيد على الخليج، تمتلك، دون شك، كل مقومات المدينة المتقدمة والثرية. ففضلا عن تاريخها وعراقتها وانفتاحها، فإنها تجلس على ثروة نفطية كبيرة، وتطفو على بحيرات وأنهار وشطوط وقنوات ومرافئ عديدة، وتمتلك ثروة بشرية ونخبا فنية وثقافية فعالة لها إسهامات كبرى في الثقافة العراقية والعربية. غير أنها دكت بالمدافع والقنابل والحروب على مدى عقدين، ثم استباحتها لسنوات عديدة عصابات القتل والتهريب، فانسحقت أصالتها بأساطيل التخلف، وجرحت كرامتها وأهين كبرياؤها، وانحدرت أيما انحدار إلى الحد الذي عجزت معه عن توفير مياه الشرب لأبنائها.

كيف يمكن لمدينة مثل البصرة أن تعطش؟! على الرغم من أن مشكلة شُح المياه الصالحة للشرب في البصرة ليست وليدة اليوم، لكنها ضربت مؤخرا بصورة مأساوية، وولدت ردود فعل شعبية ورسمية غير مسبوقة، وحتمت ردة فعل حكومية محسوسة، وقام السيد رئيس الوزراء العراقي شخصيا بزيارة المنطقة، وأوفد مستشاريه لمتابعة الوضع المائي في البصرة، وتم اتخاذ إجراءات عاجلة، واقتراح برنامج «لإنقاذ البصرة» لا نعلم مدى تطبيقه، إن كان أخذ به في المقام الأول، ولكن ردة الفعل الحكومية والشعبية أظهرت حجم المشكلة، وعدم إمكان تجاهلها بعد الآن، والضرورة القصوى لدعم المدينة للتغلب على مأساة شح مياه الشرب ومياه الري.

لقد تفاقم الوضع كثيرا في البصرة خلال العام الماضي وأدى شح المياه إلى موت المزارع والنخيل والحيوانات وحقول تربية الأسماك، وتراجعت الثروة السمكية في شط العرب، وارتفعت نسبة ملوحة المياه في شط العرب وقنواته، وارتفع المد الخليجي المالح إلى مناطق شمال البصرة، ولم يعد هناك مصدر لمياه الشرب في كافة أحياء ومدن وقرى البصرة، وأجبرت آلاف العوائل على النزوح، وتغير الواقع السكاني والزراعي في أكثر مناطق العراق عراقة.

لقد اعتمدت البصرة أساسا على شط العرب للحصول على حاجتها من مياه الشرب نظرا لعذوبتها. فقد كانت مياه الشط عذبة عبر التاريخ وحتى نهاية ثمانينات القرن الماضي. ولهذا السبب بالذات أنشئت محطات تصفية مياه الشرب الاثنتا عشرة كافة التي تغذي البصرة وضواحيها على شط العرب. غير أن التغيرات التي حدثت منذ ذاك، التي زامنت الحرب العراقية - الإيرانية وما لحقها من تحوير للنظام النهري في الدلتا العراقية على الجانبين العراقي والإيراني، الذي نتج عن إنشاء آلاف الكيلومترات من السدود الترابية، لتأمين حركة الآليات العسكرية، وتحويل وتحوير المجاري الطبيعية لشبكة القنوات والأنهار بعيدا عن شط العرب، أو الروافد التي تصب فيه، وبالتزامن أيضا مع إنشاء عدد كبير من السدود الكبرى في أعالي الأحواض في تركيا وسورية وإيران، مما قلل الإيرادات المائية التي تصل شط العرب، فابتدأت نسبة الملوحة فيه بالتفاقم إلى أن أصبحت مياه شط العرب غير قابلة للشرب وتجاوزت الحد المسموح به للاستهلاك البشري حسب مواصفات منظمة الصحة العالمية. ومن المفجع أن الحكم العراقي السابق استثنى البصرة، من سائر المدن، من الالتزام بمواصفات منظمة الصحة العالمية فيما يخص نسبة ملوحة مياه الشرب بزيادتها إلى ألف جزء في المليون بدلا من خمسمائة جزء في المليون في مناطق العراق الأخرى، مما لا يستقيم مع العقل أو المنطق، بل هو دليل على عجز الحكومة في معاملة المناطق والمواطنين على أساس المساواة، ومع ذلك فنسب الملوحة في شط العرب كانت تزيد على ألفي جزء في المليون في غالب الأحيان وتتجاوز في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) حدود الأربعة آلاف جزء في المليون ولا تصلح حتى لشرب الحيوانات.

ما الذي حصل؟ هناك سببان رئيسيان لتحطيم عذوبة مياه شط العرب، وتسببا في عطش البصرة، وهما:

أولا: تجفيف الأهوار العراقية، أي المسطحات المائية في جنوب العراق التي كانت خزينا كبيرا، ومصدرا متجددا للمياه العذبة. وثانيا: تحويل مجرى نهر الكارون الإيراني بعيدا عن مصبه في شط العرب.

فيما يتعلق بالسبب الأول، فقد اتخذ نظام صدام حسين قرارا سياسيا بتجفيف الأهوار العراقية وأصبحت سياسة التجفيف سياسة رسمية منذ عام 1990، وذلك لعدة أسباب، لسنا بصدد عرضها هنا بل نكتفي بالإشارة إلى أن السبب الأمني كان السبب الرئيسي منها. وقد أسهمت إيران من طرفها بتشديد حدة التجفيف وسرعته، وذلك بتجفيفها للجزء الإيراني من هور الحويزة المشترك بين البلدين، وبناء سد كبير على نهر الكرخة المغذي الرئيسي لهور الحويزة من جانب إيران، وقد استكملت مؤخرا بناء سد ترابي قاطع بارتفاع أربعة أمتار وعرض ستة أمتار في منتصف هور الحويزة على طول خط الحدود الدولية مع العراق وبذلك منعت حركة المياه إلى الجزء العراقي منه.

أما فيما يتعلق بنهر الكارون فقد كان يصب 14 مليار متر مكعب من المياه العذبة سنويا في شط العرب جنوبي البصرة، فيدفعها المد البحري العالي شمالا لتختلط مع المياه العذبة القادمة من نهري الفرات ودجلة ومن الأهوار (قبل التجفيف)، أي من هور الحمار عن طريق كرمة علي، ومن هور الحويزة عن طريق نهري الكسارة والسويب، وهو ما جعل مياه شط العرب تمتاز بعذوبتها وتجددها المستمر مع المواسم. غير أن إيران أنشأت عددا من السدود على النهر وفروعه وحولت مجرى النهر الرئيسي قبيل مصبه بشط العرب وجعلت مساره موازيا للشط تحت مسمى نهر بهمشير، ويمكن رؤية هذا، التغيير باستخدام برنامج «غوغول إيرث» Google Earth(لمن يريد تفاصيل أكثر).

لقد تدهورت مياه شط العرب كثيرا بعد هذين الإجراءين، وازدادت ملوحتها إلى الحد الذي لم يعد ممكنا معه شربها أو تنقيتها. وقد لجأت الحكومة العراقية السابقة، بعد تفاقم الوضع، إلى تزويد البصرة بمياه الشرب من نهر الغراف بناء على توصية من شركة «بني بارتنرز» الاستشارية البريطانية. ولمن لا يعرف جغرافية الجنوب العراقي فإن هذا يعني نقل مياه الشرب إلى البصرة عن طريق قناة تمتد من ذنائب نهر الغراف، وهو أحد فروع نهر دجلة، من منطقة تسمى البدعة إلى الشمال من مدينة الناصرية ولمسافة 240 كلم إلى البصرة، وقد أطلق الدكتاتور عليها اسم «قناة وفاء القائد» واستكمل إنشاءها عام 1997 في ظروف غاية في الصعوبة أجبرت المهندسين على تغيير المقترح الأصلي للشركة الاستشارية، وإدخال تغييرات على مسار القناة، وما زالت القناة تعمل لحد هذه اللحظة وهي تمثل، منذ إنشائها، عنق الزجاجة في قضية مياه الشرب في البصرة، ويبدو أنها ستبقى كذلك إلى سنين عديدة أخرى. وبذلك تكون البصرة المدينة الوحيدة في العالم التي يعتمد نظام مياه الشرب فيها على قناة مفتوحة تأخذ المياه من مصدر يقع على بعد 240 كلم من مكان استخدامها، ولذلك فهو نظام هش لمياه الشرب، ومحفوف بالمخاطر، أقلها انقطاع جريان القناة بسبب مرورها بأراض جصية مما يعرضها إلى انهيارات مستمرة، فضلا عن إمكانية تلوثها أو تلويثها المتعمد، والنقص في الطاقة أو الوقود اللازم لتشغيل محطتي الضخ المنصوبتين على القناة لتمرير مياهها تحت نهر الفرات وقناة المصب العام، أي المجمع الكبير لمياه الصرف الزراعي في العراق. ولكن أخطر ما في هذه القناة، التي أعدنا تسميتها عام 2003 إلى «قناة ماء البصرة»، هو حجم المبالغ المالية التي صرفت على إنشائها وصيانتها خلال الثلاثة عشر عاما الماضية، وهي مبالغ كانت كافية لتزويد سكان البصرة بمياه شرب آمنة لو صرفت في إنشاء محطة تحلية كبيرة في البصرة (Desalination Plant)، كما اقترحنا في أكثر من مناسبة منذ عام 2003. فمن المعروف أن محطات تصفية مياه الشرب التقليدية يمكنها تعقيم المياه من البكتريا والجراثيم ولكن لا يمكنها تقليل ملوحة الماء.

ما الحل؟ إننا في الوقت الذي نؤيد فيه الإجراءات العاجلة للحكومة العراقية في معالجة أزمة مياه الشرب في البصرة، نعتقد أن الطريقة الوحيدة لمواجهة مشكلة مياه الشرب في البصرة على المديين المتوسط والبعيد، هي تقنية التحلية لتزويد السكان بمياه شرب سليمة ومتاحة لجميع المواطنين، وقد ثبتنا ذلك في دراسة مفصلة عن مياه الشرب في محافظة البصرة، أعدها فريق دولي متخصص، وقدمت عام 2005 لوزارة البلديات والأشغال العامة العراقية، المسؤولة عن تزويد البصرة بمياه الشرب، واقترحنا أن يتم البدء في إنشاء محطة تحلية كبرى إلى جانب محطة معالجة تقليدية، ثم يصار إلى مزج المياه المنتجة من المحطتين للحصول على مياه شرب ذات ملوحة مقبولة، وضمن مواصفات منظمة الصحة العالمية لنوعية مياه الشرب، توزع على المواطنين.

إن هذه المقاربة تضمن على أقل تقدير ما يأتي: تحرير مدينة البصرة من الاعتماد على «قناة ماء البصرة» التي أنشئت في ظروف صعبة من الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق بعد احتلال الكويت، وهي تعاني مشكلات هيكلية وفنية وتحتاج إلى إدامة وصيانة مستمرتين، وتمويل كبير لتحقيق نظام شرب آمن لسكان البصرة.

تحقيق درجة كبيرة من المرونة في نظام الشرب عن طريق استخدام مصدر للمياه متاح للمدينة في موقع إنشاء محطة التحلية نفسه، مما يعني ضمنا تحويل مسؤولية التزود بمياه الشرب من السلطة المركزية في بغداد إلى الإدارة المحلية.

تحرير وزارة الموارد المائية من عبء صيانة «قناة ماء البصرة» وتحويل مواردها المالية المخصصة لصيانة القناة إلى الناحية الإروائية التي هي في صلب مهماتها.

* الممثل الدائم للعراق لدى منظمة الغذاء والزراعة الدولية والمنظمات الدولية الأخرى في روما