رجال الدين في خطر!

TT

الهجوم على المفتين في لبنان من قبل رجال السياسة، يبدو أنه لا يزال في أوله. هذا على الأقل ما يقوله ندماء السياسيين ومجالسوهم، الذين باتوا يتحدثون عن أسماء لمفتين جدد لا بد من أن دائرة تصفية الحسابات السياسية الجهنمية ستلتهمهم، بعد أن صالوا وجالوا في السنوات الخمس السابقة، وأفتوا وتكهنوا، وألقوا حبل الخطابات التحريضية على غاربها، مستعذبين حلاوة الأضواء، وفتنة الشهرة القاتلة. ومع المفتين هناك الإسلاميون الذين يشعرون أن ثمة من وظفهم في غير ما كان يليق بهم، وربما شوه سمعتهم، لا بل وأدخلهم السجون، وها هو يبيعهم في أول مناسبة. الإحساس بالغبن عند المفتين ومجموعات إسلامية كانت طرفا سياسيا في السنوات السابقة، لن يغير من العلاقة المسمومة بين السلطة ورجالات الدين شيئا. فالمصالح المتبادلة بين الجانبين، والتوازنات الصعبة، هي في لب تركيبة النظام السياسي اللبناني الأخرق. وليس أكثر فسادا من رجل سلطة يحتاج لغطاء رجل دين، بينما رجل الدين هذا لا يصل إلى كرسيه من دون رضا رجل السلطة. يخبرني أحد المطلعين على هذا الملف الساخن، أنه من سوء حظ مفتي طرابلس مالك الشعار المحسوب على عمر كرامي، أن هذا الأخير لم يستفد من المصالحات الداخلية، ومن تطور العلاقة بين سورية والسعودية، فساءت علاقته بالرئيس سعد الحريري بدلا من أن تتحسن. وبما أن كرامي يستصعب الهجوم على الحريري، فقد صوب سهامه نحو المفتي الشعار الذي كان قد بدأ بمجافاته توددا للحريري. لكن ثمة عالمين بالأمور يقولون إن كرامي ليس وحده من يستهدف المفتي الشعار، ففي السر، كل سياسيي طرابلس أو جلهم، يتذمرون في مجالسهم الخاصة، من المفتي الذي تطاول وسولت له نفسه لعب دور سياسي، أثناء معارك طرابلس الأخيرة.

والحق يقال، إن المفتي الشعار طموح من هذه الناحية، لكنه لم يفعل إلا بدعم من بعض السياسيين الذين يعملون الآن هم أنفسهم، على سحب البساط من تحت رجليه، بعد أن أدى الدور المطلوب منه.

كما أن مفتي الجمهورية اللبنانية محمد رشيد قباني، لم يكن عفيفا نقيا، ثم اكتشف من اكتشف أن حسابات دار الفتوى تخلط بين الجيب الشخصي، وجيب الطائفة السنية، لكن التوقيت السياسي، بات يسمح بكشف الغطاء عن تجاوزات المفتي المالية، وما كان الظرف ملائما من قبل.

التلاعب برجالات الدين، يتم بالتواطؤ مع هؤلاء أنفسهم، والجميع في اللعبة متساوون في المسؤولية، لكن المشكلة الكبرى للمفتين الحاليين، أنهم أمنوا مكر السياسيين أكثر مما ينبغي، وداهنوهم، ليس فقط على حساب مصداقيتهم الشخصية، وإنما أيضا على حساب سمعة مؤسساتهم الدينية.

وعلى الرغم من أن غالبية الحركات الإسلامية لا تشعر بالضرورة بود كبير تجاه دور الفتوى لطابعها الرسمي، فإن هذه الحركات مستاءة الآن من توظيف المفتين، على النحو الرديء والموبوء الذي حصل، وتعتبر ما جرى مسّا بكرامة الطائفة، وعبثا بمؤسسات ما كان يجوز أن تستعمل في «الكباش» السياسي، حد إفساد القيمين عليها، أو على الأقل الإيقاع بهم.

ويقول لنا أحد الإسلاميين غاضبا: «لقد عبث بنا السياسيون السنة بما يكفي، وكان قد سبقهم إلى ذلك السوريون حين كانوا في لبنان. وفي كل العهود، وضعنا في السجون، أو أقصينا عن المشاركة في القرار». ويشعر، هذا الإسلامي كغيره من الإسلاميين بغيظ شديد، حين يرى أن «القوات اللبنانية» بات لها نواب ووزراء في الحكومة، بينما لم يحظ الإسلاميون بغير مقعد نيابي يتيم واحد حصلوا عليه بعد مفاوضات عسيرة، وما كان ليعطى لهم لولا العيب والحياء. «هل يعقل - يقول هذا الإسلامي الغاضب - أن لا يكون لنا وزير واحد، على الرغم من عددنا الكبير وجمهورنا الغفير». وما ينساه هذا الإسلامي هو أن ارتهان الإسلاميين أنفسهم للزعماء وتقلباتهم البهلوانية، كما أن ارتباطاتهم الخارجية وتمويلاتهم المتفرعة المصادر، مزقتهم إربا وشرذمتهم، حتى باتوا فرقا متناحرة يصعب جمعها أو التفاوض معها. أمر يدركه بعض الناشطين الإسلاميين اليوم، ويحاولون لملمة أوصال حركاتهم في اجتماعات صغيرة يعقدونها في ما بينهم، يعتبرونها لقاءات مصارحة وربما مسامحة، لإصلاح ذات البين، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. محاولة رجال الدين الرسميين اعتبار أنفسهم جزءا من هذه المصارحات الحميمة بين الإسلاميين، لا ينظر إليها بكثير من الارتياح، فثمة ما هو رسمي وهناك ما هو شعبي يجنح للتمرد، كما يقولون.

الإسلاميون ليسوا قوة ضاربة في لبنان اليوم، بل على العكس، هم فئات مستضعفة، لكنها تشعر بأنها خدعت وغرر بها، وبرجالات الدين في طائفتها. إصلاح ما أفسدته السياسة في المواقع الدينية الرسمية حاجة ملحة، وإنصاف الحركات الإسلامية بالإصغاء إليها ليس أقل إلحاحا. الحركات الإسلامية في لبنان تخبو في وقت الرخاء، وتنبجس متفجرة وقابلة للاشتعال في أوقات الشدة. استضعاف هذه الحركات الآن، والاستخفاف بها، سيكون خطأ سرعان ما تظهر آثاره وخيمة عند أول أزمة وطنية كبرى. لذلك من الحكمة معالجة موضوع دور الفتوى بسرعة، ومن دون استفزاز و«استعراض عضلات» إعلامية، ومن ثم الالتفات إلى الخيبة الكبرى للإسلاميين بعين الرعاية والتفهم، فنحن في غنى عن «فتح إسلام» جديد أو «جند شام» أو «عصبة أنصار» في كل مخيم وعند كل مفترق طريق. ومن لا يصدق أن تنفيس الغضب أفضل من تركه يتصاعد ويتحول إلى ما يشبه طنجرة ضغط، عليه أن يراجع ما حدث في السنوات القليلة الماضية، ليفهم ويتعظ.