الحب والكراهية للحبيبة؟.. هذا سؤال في السياسة

TT

تجاوزت الرابعة والسبعين من عمري وأعتقد أنها السن المناسبة التي أزعم فيها أنني أفهم في الحب والكراهية، وأنني تخرجت فيهما بدرجة مقبول على الأقل. ومع ذلك فقد عشت حياة مفعمة بالحب، وقبل أن يفهم القارئ أنني كازانوفا المصري أقول: كل قصص الحب الجميلة في حياتي، الطويلة والقصيرة، الهادئة والعنيفة، انتهت بوداع مؤلم تعقبه حالة نقاهة طويلة، ثم أصاب به مرة أخرى لكي تبدأ الحكاية من جديد. خبير أنا، ولا ينبئك مثل خبير. وكما يحدث مع الأدوية الشافية ستجد دائما نشرة تحذرك من الآثار الجانبية الضارة للدواء، أنا أيضا أحذرك من الاعتماد كلية على خبرتي، فقد تكون لك خبرة أخرى أكثر إحاطة وشمولا وربما أكثر جمالا وأقل عذابا.

الحب سابق على الوجود، فالإنسان يولد محبا أو كارها، ولكل إنسان قصة بدأت أحداثها ليس قبل مولده فحسب، بل حتى قبل تلك اللحظة التي تشكل فيها هذا الوجود. هناك بالفعل طريق رسم لك على طريق الحب والكراهية حتى قبل أن تنزل من رحم أمك، ثم تنزل أنت لتمشي في هذا الطريق مبتدئا بالمحطة الأولى وهي البيت، ثم تواصل مسيرتك على طرق الدنيا السريعة والبطيئة. غير أن ذلك بالطبع لا ينفي مسؤوليتك عن أفعالك المحبة والكارهة. ما نعرفه عن آليات العقل والنفس قليل للغاية، ولكني أزعم أن لحظة لقاء الأب المحب بالأم المحبة في بيئة يسودها الحب والوئام والاحترام في أجمل لحظات صنع الوجود، هي بذاتها ما سيعطيك - بعد هبوطك على الأرض - قدرتك الهائلة على الحب.

هذه القدرة ستدعمها وتصقلها البيئة المحبة التي ستعيش فيها طفولتك، أنت لا تعرف من أين أتيت ولكنك جئت لتجد عالما كبيرا ستعمل على استكشافه والتكامل معه، ستتعلم كل يوم، بل ربما في كل لحظة، شيئا جديدا، شيئا مفيدا يوسع مداركك، هناك «دينامو» مثبت في عقلك يدفعك دائما للمزيد من الحب. إنها طاقة الحب الكونية الكامنة فيك، وقد تحولت إلى بوصلة تشير دائما إلى اتجاه الحب. ستحب أمك وأباك ومدرستك وأساتذتك وزملاءك وأصدقاءك وأقاربك، والحي الذي تربيت فيه ولعبت في شوارعه وحواريه، ثم تتسع الدائرة لتشمل الوطن، ومع اتساع مداركك ستجد نفسك محبا للكون كله، لأنك أصلا منتج من منتجات الحب، بل لعلك المنتج الرئيسي. التزامك بالقانون لن يحدث بدافع خوفك من السجن، بل بدافع من احترام القانون. احترامك لتعاليم الدين ليس بسبب خوفك من جهنم فقط، بل لأنك تحب الجنة أيضا. إنك لن تحتقر شيئا أو إنسانا بسبب اختلافه عنك في الدين أو العرق أو الجنس لأنك استوعبت أنك ابن الإنسانية كلها، الحب هو ما سيدفعك لأن تحترم سكان الأرض جميعا، الأكثر من ذلك، ستدافع عن البيئة في كل مكان من أجل حياة أجمل، كما ستدافع عن - أو على الأقل ستساعد - سيئي الحظ من الفقراء والعاجزين أو هؤلاء الذين تعرضوا لكوارث مفاجئة.

كل منجزات العلم العظيمة حدثت بدافع من الحب، هناك مؤسسة عامة للمحبين لا تعرف الحدود والجنسيات، تقدم بطلب لعضويتها وستقبل على الفور، ثم عد إلى العمل في حقلك أو في مصنعك أو في جامعتك أو في تجارتك أو في معملك أو في إدارات الدولة. صدقني، كل منجزات البشر العظيمة حدثت بدافع من الحب وليس بتعاليم العقل. والحب طارد للخوف والتوجس، مرافق وملاصق دائم للشجاعة. اسمح لي أن أتوقف هنا للحظات لأحدثك عن قرار بالتحاق مائة ألف شاب سعودي على مدى خمسة أعوام بالجامعات الأميركية وبقية جامعات العالم، هذا قرار حدث بدافع من الحب العام ويتطلب شجاعة فائقة، وإن كنت أنا بدوافع - أعترف بأنها شوفونية - أطلب أن يكون لبقية عواصم المنطقة العربية نصيب في هذا القرار. حتى لو كان العدد ألف طالب، أنا أريد إضافة أمل جديد للشبان العرب، أمل يدفعهم للاجتهاد في دراستهم، أريد لهم أن يعيشوا لحظات من أحلام اليقظة المفيدة، من يمتلئ منهم قلبه بالحب ستمكنه عزيمته من الحصول على هذه الفرصة، لقد حلمت طويلا في شبابي بالالتحاق بجامعة أميركية أو إنجليزية، وتحقق حلمي بعد سنوات طويلة وبعد أن أصبحت كاتبا معروفا. كم كنت سعيدا بجلوسي في قاعة المحاضرات بجامعة ميتشغان مع طلاب في سن أولادي بعد أن تجاوزت الخمسين. أما زلت تسألني: هل أحب حبيبتي المسيحية أو اليهودية؟

أتكلم معك ومع الزميلين حمد الماجد وعبد الرحمن الراشد لأنهما أول من أثار هذه المسألة، وأنا واثق من أنهما يعرفان الإجابة جيدا، معظم الكتاب يعرفون الإجابة عن هذا السؤال، إلى الأبد سيكون من السهل العثور على الأسئلة التي تحرك العقل، أما الصعب حقا فهو العثور على الحب الذي يحرك القلب والعقل معا.

كان الهدف من هذه المقدمة الطويلة للغاية أن أقول لك: عندما تعجز عن حب زوجتك المسيحية أو اليهودية فصدقني أنك ستكون أكثر عجزا عن حب زوجتك المسلمة، لأنك في هذه الحالة لن تكون عضوا في مؤسسة الحب العام، بل ستكون عضوا في منظمة الكراهية التخريبية، ستكره زوجتك بغض النظر عن ديانتها، وستكره أولادك، ولن يكون لك أصدقاء، وسيكون شغلك الشاغل هو البحث عن المزيد من الناس لتكرههم، ثم تبحث عن إنجازات بلدك لتكرهها، ثم بقية إنجازات العلم لتكرهها، وإن كان ذلك لن يمنعك من استخدام الإنترنت في بث كراهيتك على الناس في طول الأرض وعرضها، لكي يستقوي بها بقية الكارهين من أفراخ التطرف. أين تعلمت كل هذه الكراهية؟

الواقع أنك لم تتعلمها، لقد جئت نتيجة للقاء أب كاره مع أم كارهة، أب يحتقر المرأة لعجزه عن الإحساس بالرجولة، وأم سيئة الحظ ألقت بها المقادير في طريقه فكرهته وكرهت الدنيا، ثم عشت معهما في بيت تظلله الكراهية وتعلمت في بيئة تسودها تعاليم الخوف والكراهية، والعلاقة الوحيدة التي تربطك بزملائك هي الكراهية. دينامو الحب تعطل بداخلك، والمحرك الوحيد الذي يعمل بداخلك بكل نشاط هو الكراهية. كل قرار في مجتمعك يعطي للإنسان المزيد من العلم والحرية، سيحرك بداخلك عفاريت الكراهية السوداء. كل قرار بالانفتاح على العالم سيدفعك إلى المزيد من الشعور بالعجز والألم والإحساس بالضآلة.

قد تحصل على أرقى الشهادات، التي أعطاها إياك الكارهون، ربما ترقيت في زمن ماض كسول إلى وظيفة عليا حتمتها اللوائح العمياء، ربما حققت شهرة عريضة بين فلول قوى التطرف الكارهة، غير أنك في النهاية أول من يعرف أنك عاجز عن التوافق مع مجتمع تسوده الحرية والعقل ولا يمجد إلا هؤلاء الذين يمشون في طريق الحب العام، طريق المزيد من الإنجاز من أجل حق البشر في حياة أجمل وأفضل وأكثر عدلا. في الحروب وعندما يشعر طرف ما بأن هزيمته باتت محققة، يفقد أعصابه ويلجأ لهجوم كبير ويائس خلف خطوط الجيش المنتصر، هذا هو بالضبط ما يحدث هذه الأيام من جيوش التطرف المهزومة، لقد قرأت في جريدة «المصري اليوم» القاهرية 24 فبراير (شباط) 2010، فتوى صدرت على الإنترنت، وليس مهمّا اسم من أصدرها. تقول: «إن قتل من يبيح الاختلاط في ميادين العمل والتعليم جائز، واصفا من يقوم بهذا العمل بالإنسان المرتد الكافر الواجب قتله، كما وصف الرجل الذي يسمح لأخته أو زوجته بالعمل أو الدراسة مع الرجال بالشخص الديوث».

هذا هجوم يائس خلف خطوط العرب والمسلمين قامت به جبهة على وعي بأنها هزمت هزيمة ساحقة. ومن المهم أن نذكر هنا ردود رجال الدين المصريين على هذه الفتوى، يقول الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية: «إن الاختلاط بين الفتيات والبنين مباح شرعا لطلب العلم مع الالتزام بالآداب والقيم التي حددتها الشريعة الإسلامية، وإنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية ما يمنع الاختلاط سواء في المدارس والجامعات وغيرها»، كما قالت الدكتورة سعاد صالح، أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر ورئيس لجنة المرأة بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، إن الإسلام لم يحرم مطلقا الاختلاط بين البنين والبنات، وإن الأصل في الأمور هو الإباحة ما لم يرِد نص صريح بالتحريم، كما قالت إن المرأة قامت بدور كبير في نشر العلم والمعرفة طوال التاريخ الإسلامي، كما قامت بالتدريس للرجال في مختلف المجالات.

كما ترى، من المستحيل أن يوافق على هذا الكلام علماء الدين، وتعاليم الدين بالتأكيد لا تشغل صاحب الفتوى، ولذلك ذهب إلى غرضه مباشرة وهو القتل، بوصفه تجسيدا لحالة الكراهية العليا. هو على يقين من أن أحد المخبولين سيقتنع بهذا الكلام ثم يقوم بتنفيذ الحكم على الفور على تلميذة أو تلميذ أو مسؤول عن التعليم في مكان ما، بعدها سيحاكم هو بتهمة التحريض، ولذلك أنا أرى أن يحاكم قبلها، أي قبل أن تتحقق فتواه على الأرض. هذه جبهة كارهة ومهزومة، وعلينا أن نثبت لها ذلك بكل طرق الإثبات.