الأسطورة والحقيقة حول السياسة الأميركية في العراق

TT

الكثير من اللغط يدور اليوم حول توجهات السياسة الأميركية في العراق وتفضيلات تلك السياسة. وفي خطابه الذي ألقاه أمام معهد السلام، قدم السفير الأميركي في بغداد إجابة وجيزة ودبلوماسية نجح من خلالها أن يمرر رسائل وهو يعبر حقل الألغام المليء بالشكوك والانتقادات والمخاوف من كل الأطراف، الشيعة والسنة، والعرب والأكراد، ودول الجوار، والصحافة الأميركية والجمهور الأميركي. الخطاب كان ينطوي أيضا على نقد ذاتي جريء من النوع الذي لا نجيده نحن في منطقتنا.

بشكل خاص كان انعكاس الماضي على الحاضر مهما في هذا النقد، حيث يوضح السفير أن تاريخ السياسة الأميركية في العراق لا سيما من حيث تأثيره على علاقات السلطة يختزن ما يبعث القلق ويطلق العنان لنظريات مؤامرة صرنا نسمع صداها في الإعلام وفي تصريحات السياسيين بشكل شبه يومي.

بوضوح يعترف السفير بأن أميركا ساهمت في الستينات بدعم صعود البعثيين للسلطة، الأمر الذي يبرر الشكوك السائدة في بغداد لا سيما إثر الموقف الأميركي المتحفظ على استبعاد مرشحين من الانتخابات تحت ذريعة علاقتهم بالبعث. وهنا لا بد أن ندرك أن أميركا دعمت البعث ليس لمحبة عميقة عابرة للمصالح والزمن، بل لأن ذلك كان مرتبطا بتوقيت استراتيجي خاص. فبعد 1958 كان الشيوعيون يمثلون القوة السياسية الأكثر تنظيما وقدرة على التأثير في السلطة إن لم يكن انتزاعها، وكان ذلك يجري ضمن مرحلة احتدام الحرب الباردة حيث كانت محاربة الشيوعية الحجر الأساس في الاستراتيجية الأميركية العالمية، وأنها اتخذت أشكالا من قبيل دعم أي تيارات معادية للشيوعية حتى لو لم تكن منسجمة آيديولوجيا مع الغرب (نفس الفكرة التي دفعت بريطانيا إلى التغاضي عن صعود هتلر في ألمانيا لاعتقادها أنه سيصد التمدد الشيوعي)، ولأن القوميين العرب وفي مقدمتهم البعثيون كانوا يمثلون القوة المنظمة الوحيدة التي يمكن أن توازن قوة الشيوعيين في فترة صعود المد القومي إقليميا فقد كانوا الخيار الأفضل بين خيارين سيئين للسياسة الأميركية، وكان ذلك سبب دعم انقلاب البعثيين من قبل أميركا عام 1963. أما الانقلاب الثاني عام 1968 فقد حظي بالدعم لأسباب منها أن هزيمة 1967 قد وضعت الكثير من الأنظمة العربية في مأزق أصبح معه سقوطها أمرا مفروغا منه، فضلا عن أن نظام عبد الرحمن عارف كان قد استفز الأميركيين بتوقيع عقود نفطية مع شركات فرنسية، الأمر الذي دفعهم للتنسيق مع البعثيين لا سيما جناحهم اليميني وعن طريق قنوات كان من أهمها المجموعة التي صفيت في 30 تموز ومن بينهم وزير الخارجية بعد انقلاب 17 تموز ناصر الحاني الذي مثل همزة وصل مهمة مع البعث قبل الانقلاب وقد تمت تصفيته لاحقا وبطريقة بشعة وألقيت جثته في أحد شوارع بغداد من أجل دفن الدور الذي لعبه. بهذا المعنى يمكن القول إن دعم البعث كان مرتبطا بطبيعة المرحلة ومتطلبات المصلحة الأميركية وليس نتاجا لتحالف عميق واستراتيجي، وكان إسقاط نظام البعث عام 2003 تعبيرا ليس عن كراهية متأصلة للبعث (الذي كان أصلا قد تلاشى كحزب سياسي وتنظيم آيديولوجي وأصبح هيكلا تابعا للتحالف العائلي - العشائري الحاكم منذ صعود صدام للسلطة)، بل عن تغير في قراءات المصلحة الأميركية غاب عنه الخطر الشيوعي وحل محله وإلى حد كبير خطر صعود الأصولية الإسلامية التي أصبحت القوة الأكثر وزنا على الصعيد الشعبي في المنطقة، الأمر الذي يجعلنا نفهم لماذا لم تدعم أميركا انتفاضة 1991 في الجنوب التي كانت ذات مسحة إسلامية وفضلت أن تأتي بنفسها إلى العراق بعد 12 عاما للإطاحة بنظام كانت تلك الانتفاضة على وشك الإطاحة به لو تلقت دعما دوليا.

اليوم ليست هناك قوة حقيقية على الأرض وذات قدرة على التعبئة الواسعة النطاق اسمها البعث، ومرحلة النظم الانقلابية والبيان رقم واحد قد تلاشت مع إرث الحرب الباردة، وحتى لو كانت لأميركا تفضيلات فيما يتعلق بالتيارات السياسية الموجودة (كما أن لكل دول المنطقة تفضيلاتها)، فإنها استراتيجيا تميل إلى كفة حكومة منتخبة وبتفويض شعبي واسع النطاق لأنها تمثل القوة الفاعلة والحقيقية على الأرض، وهي بالتأكيد ترغب أن تكون هذه الحكومة حليفة لها. الحديث عن انقلاب عسكري ترعاه أميركا يبدو مخالفا لكل منطق لا سيما بعد الثمن المادي والبشري الهائل الذي دفعته لتحقيق الاستقرار الهش الراهن، وهي غير مستعدة لدعم حكومة انقلابية تستند على جيش ضعيف غير مضمون الولاء في الوقت الذي يمكن للقوى الأخرى أن تعبئ الشارع وتطيح بالانقلابيين ببساطة وعندها ستكون الخسارة أكثر كلفة للأميركيين لأنها ستشمل مصداقيتهم كراعٍ لعملية ديمقراطية في مجتمع لم تترسخ قيمه الديمقراطية بعد. الأميركيون يسعون إلى ضمان أن تكون الحكومة القادمة صديقة ومنسجمة مع مصالحهم الأساسية، وفي المقابل فإنهم سيمنحونها شراكة استراتيجية ودعما دوليا لا يمكن لأي طرف آخر إقليميا كان أو دوليا أن يمنحه للعراق. ما يجب أن ندركه - نحن العراقيين - أننا لسنا أقل حاجة لتلك الشراكة، لأنها الطريق الوحيد الممكن لتحقيق ثالوث الاستقرار والديمقراطية والتنمية. للمرة الأولى يبدو أن هذه المطالب الملحة للعراقيين تلتقي مع المصلحة الأميركية ولا يشترطها سوى أن نقتنع بأهمية أن نأخذ مصالح الأميركيين بالاعتبار فهم ليسوا جمعية خيرية تأتي لتسقط الدكتاتورية ثم تترك البلد لخصوم يتوعدونها بالأسوأ.