وتوكأ على بابها وأسلم الروح!

TT

من ظرفاء مدينة جدة رجل عليل البصر، متوقد البصيرة، أشعلت تجارب الحياة دمه، فحولته إلى بائع حكمة متجول، يسكب الموعظة في الطرقات على رأس من أرادها، له في كل مسألة رأي، وفي أية قضية وجهة نظر. لو كان للعم حميدان عينان تبصران لتحول إلى رسام كاريكاتير من طراز نادر، فهو ساخر إلى حد الإثارة، رشيق العبارة إلى تخوم الدهشة، يقف على الحد الفاصل بين العبقرية والجنون، ولا يخلو الأمر من أن يتأرجح بينهما أحيانا.

تزوج ذات مرة بامرأة بالغت كثيرا في الحديث عن جمالها، وهي تردد على مسامعه:

- ليتك تبصر لترى سحر عيني، وتقاطيع وجهي، وصفاء لوني..

فمارس الصمت طويلا واحتسب، حتى ضاق خلقه، ونفد صبره، فصاح بها قائلا:

- أتظنين أني مغفل يا امرأة؟! والله لو كنت كما تقولين لما تركك المبصرون!

ويتحدث عن نوادر زمنه الذي كان لا يرى فيه العريس عروسه إلا ليلة الزفاف، وبعد أن تقع الفأس في الرأس، ويقول: «إذا ركزت الخاطبة في الحديث على أخلاق الفتاة، فاعلم - رحمك الله - أنها لم تجد فيها من الجمال المحسوس ما يستحق أن تتحدث عنه، فعمدت إلى الحديث عن الأخلاق، والأخلاق - كما تعلم - ليست أمرا يمكن الاعتماد فيه على فطنة الخاطبة».

ومن فرط عبقرية الرجل وجنونه أن اتخذه البعض مرشدا ودليلا، فكان يتحلق حوله المريدون، ويمشي في ركابه المعجبون، فلا تراه إلا وسط كوكبة من المشائين، وكأنه أرسطو زمانه، وقد حدث أن سكن بمفرده في بيت في أطراف المدينة، وخشي أن يتسلل إليه اللصوص على حين غفلة، فاشترى أعدادا كبيرة من الدواجن، أطلق سراحها في الفناء، فشكلت له أصواتها أجراس إنذار، تنبهه إذا ما تسلل إلى بيته متسلل.

ذلك ما كان من أمر عبقريته، أما ما يتصل بجنونه فحدث ولا حرج، ومن نوادر جنونه أنه ابتاع حصانا هرما ذات مرة، علق على جيده بوقا، ينبه الناس في الطرقات إلى أن الخيّال أعمى، وعليهم أن يفسحوا له في الطريق، فكنت ترى الناس يهربون يمنة ويسرة أمام ركض خيله، وهو يردد منتشيا أبياتا من شعر عنترة:

حصاني كان دلال المنايا

فخاض غمارها وشرى وباعا

وسيفي كان في الهيجا طبيبا

يداوي رأس من يشكو الصداعا

وحينما حانت ساعة الرحيل يقال إنه ارتدى أبهى الملابس، وسكب على جسده أفخر العطور، وبخر جسده بأنقى أنواع البخور، ومضى مودعا كل من التقى في الطريق، حتى وصل إلى مقبرة أمنا حواء، وهناك توكأ على بابها، وأسلم الروح.