النهران والحربان

TT

قبل أن يحتل صدام حسين الكويت، كنت أشبه العراقيين بالألمان، وأسميهم «ألمان العرب». شعب يبني أهم الصناعات وأفضل الطرق والجسور وفجأة يخطر له أن يذهب إلى حرب تدمر كل ما بنى. ولم يكن يخطر في بالي يومها، ولا في بال أحد، أن صدام حسين سوف يرسل جيشه عبر الحدود إلى الكويت.

عندما بدأ الإعداد للاحتلال الأميركي للعراق بدأت حملة من التحليلات والتعليقات والمخيلات حول الصورة التي سوف يكون عليها العراق بعد دخول الأميركيين. وتنافس المحللون في رسم الصور البهية. وأخذوا يستعيرون من حروب أميركا الماضية الصور والعبر. وفي النهاية خلصت الأكثرية المحللة إلى أن العراق سوف يكون يابان القرن الجديد.

يدخل الأميركيون ومعهم دبابة وكتاب. الدبابة لنهر التلميذ والكتاب مليء بأصول الديمقراطية وجمالاتها وحسناتها. ويدبر ويدير ذلك كله أميركي مدني ينتعل حذاء أبيض من الكاوتشوك ويضع ربطة عنق حمراء. ده على دي. أو دي على ده. وبعد ذلك يبدأ التغيير. تصير «تويوتا» تصنع في الكرخ. و«سوني» تنتقل إلى الأهوار. ويحل الدينار محل الين. ويرفض العراقي الرشوة بأعنف مما يرفضها الياباني. ويعيش العراقيون، بوئام وسلام، بإشراق المعلم الأميركي الذي يضع ربطة عنق وينتعل حذاء من الكاوتشوك.

لم تكن المخيلة هي الغريبة ولا المقارنة وإنما عدد الزملاء الذين انساقوا وراء فكرة واحدة، دون أن يكلفوا أنفسهم أن يطرحوا سؤالا واحدا: من سوف يوكل إليه أمر اليابان الجديدة هذه؟ أحمد الجلبي مثلا؟ إنني أتساءل دائما إن كان هؤلاء الزملاء والكتاب يعيدون قراءة تلك الأفكار النيرة والتحليلات الدقيقة. وماذا يجمع بين بلد ضرب مرتين بالقنبلة الذرية، ويخضع ثقافيا وسياسيا وعسكريا لفكرة ومؤسسة واحدة، وبين بلد متنوع مثل العراق، خاض  طوال 8 سنوات حربا ضد جارٍ قوي، ترك فيها (لنفسه ولجاره) عشرات آلاف الجثث والأشلاء والمعاقين والضحايا؟

كلما حدث انفجار في العراق أتذكر حكاية اليابان. وكلما مضى العراق نحو التدهور، أتذكر حكاية اليابان. وكلما تذكرت النهرين العظيمين وطاقتهما وثرواتهما أقول في نفسي، ما كان أغناك يا صدام عن الحربين!