الوجه الآخر

TT

لا يوجد إنسان لم يجرب حالات حزن، يصحبه فقدان الحيوية وتراجع الثقة بالنفس والإعراض عن الطعام، ويصحبه أيضا رغبة في الهروب من الواقع. وهي حالة لا تعترف بالتاريخ ولا بالجغرافيا، لأنها تدق على أبواب الناس في طول الأرض وعرضها في أي مكان وفي أي زمان. ولا فرق بين الشباب والشيوخ.

وإلى عهد قريب اعتبر الأطباء أن الاكتئاب، هو خلل في وظائف المخ. ولكن أحدث الدراسات تشير إلي أن قليلا من الاكتئاب مفيد في حل المشكلات. ويعقد الدارسون مقارنة بين الاكتئاب وارتفاع حرارة الجسم. ففي كلتا الحالتين تؤدي الظاهرة إلى انقطاع المصاب عن العمل وإعراضه عن الحب والطعام، تمهيدا إلى إعادة النسق البيولوجي المعتاد.

إذا ارتفعت حرارة الجسم يعتذر الموظف عن العمل ويلزم الفراش وحده، حتى يقوم جهاز المناعة بوظائفه في درء الهجوم. وبالمثل، فإن العزلة التي تصاحب حالة الاكتئاب تسمح لدورة التأمل والتحليل بالريادة بلا مقاطعات. العزلة التي يتوق إليها المكتئب توفر له مواقف تجبره على التفكير في أمور أخرى. وقد يرفض التواصل مع من يحب حتى لا يلهيه الأحبة عن التفكير في المشكلة المسببة لاكتئابه. ويذهب العلم أيضا إلى أن فقدان الشهية للطعام يساعد المخ على التفرغ لتحليل مكونات المشكلة المسببة للكدر. وقد تبين أن الهروب ليس حلا، وأن محاربة الاكتئاب بتعاطي الخمر أو المخدرات لا يقضي على الاكتئاب، بل يؤدي إلى تجدده واستمراره. ولكن أفضل الحلول هي التأمل في أسباب الاكتئاب والتعبير عن الخواطر والانفعالات بشكل منظم. تلك هي الخطوط العريضة، ولكن الاكتئاب الحاد المتصل يستوجب علاجا نفسيا لتمكين المصاب من تحليل المشكلة إلى أسباب ومسببات، والوصول إلى أفضل السبل للتخلص منها.

حمدت الله كثيرا، لأنه وهبني ميلا إلى التفاؤل والتعلق بأهداب الرجاء. وحمدته على يقيني بأن كل ظلام ينقشع، وأن السعادة شجرة ذات قطوف دانية، مهما مسني ضر أو حزن غير مقيم. وتجدد شكري للنعمة حين قرأت أن أحدث الدراسات تشير إلى أن حالات الحزن المؤقت هي أداة من أدوات التكيف، ترجع بالإنسان إلى بدايات الخلق، فتعينه على التعلم والتطور.

علمني النزال مع الاكتئاب، أن التعامل مع خصم قوي يستوجب دراسة الخصم وتحليله إلى أجزاء ومكونات، وأنني لو تعاملت مع كل جزء على حدة، ربحت جولة وتخففت من ثقل المشكلة تدريجيا، إلى أن يتحقق لي الفوز بحالة السكينة والصفاء فتعود للحياة بهجتها المعتادة. ومن دواعي دهشتي، أنني في حالات العزلة التي أفرضها على نفسي أحيانا لتحليل مشكلة والتعامل مع أسبابها، أجد في الإيقاع المنظم راحة. أتأمل في مشكلتي بنصفي المكتئب. وأوظف النصف الآخر في البحث عن نسق مريح. وكأنني أصبح مخلوقين لا مخلوقا واحدا. فها أنا ذا، أفكر وأتأمل بنصف، بينما يعمل النصف الآخر بهمة فوق العادة في إعادة ترتيب الكتب مثلا، أو ترتيب خزانة ثياب، أو ترتيب ملفات المراسلات. كما أنني أحيانا أجد في السير وحدي في مكان خلاء وسيلة للوصول إلى مكامن حزني. والنتيجة في جميع الحالات تكسبني ارتياحا، ثم يعود النصفان إلى التلاحم تلقائيا، وتتراجع أسباب الاكتئاب.

المهم، هو أن تكون دائما على يقين بأنك الأقوى، وأن الحزن يعقبه فرح، مثلما يعقب الليل نهار.