المجالس أمانات

TT

كل اتفاق بين اثنين إذا كان واضحا منذ البداية تكون نهايته في الغالب سليمة، وإذا كان موثقا ومكتوبا، وعليه شهود يكون أفضل، والمثل يقول: «إذا كنتم إخوانا تحاسبوا» - هذا إذا كنتم إخوانا، فكيف إذا لم تكن بينكما قرابة؟! ومنطقيا فقبل أي محاسبة أو عمل لا بد أن تكون هناك اتفاقية، وهي الحصان أو الحمار الذي يوضع أمام العربة، ويجرها خلفه.

ومن يسمع أو يقرأ كلامي هذا يظن أنني أستاذ القوانين، الحريص على تطبيقها، وما علم أن ذلك المثل الشعبي القائل: «يا مدبر العربان دبر قومك»، ينطبق علي (بحذافير حذافيره)، فما أكثر ما ورطت نفسي في أعمال مع الآخرين، وكان قوامها الثقة العمياء وحسن النية، وكانت النتيجة أن «أُكلت مثلما أُكل الثور الأبيض»، وخرجت منها كالطائر المنتوف الريش.

ولم أدخل في محاكم ولا شكاوى، ولكنني «بلعتها»، ولم ألم إلا نفسي، ومن المفروض بعد تلك «الصفعات» المتوالية أن أفوق على حالي وأتعلم، ولكن بالله عليكم هل من الممكن أن «يتعلم المتبلم»؟! إنني أشك في ذلك، والدليل الساطع أن روحي المعنوية ما زالت مرتفعة رغم تلك «الوكسات»، ولا أستبعد جدا أن يأكل أحدهم «بعقلي حلاوة» في القريب العاجل، إن لم يكن اليوم، فقطعا سوف يكون غدا.

ومع ذلك ما زلت «ضاربها صرمة»، فما دام قلبي سليما، وعاطفتي جياشة، فلا خوف علي، ولا هم يحزنون، المهم أن أعيش يومي حتى الثمالة (واللي ينزل من السماء تستلقاه الأرض).

وقبل مدة اتصل بي أحدهم يدعوني في نهاية الأسبوع لقضاء سهرة بريئة لطيفة في جلسة مختصرة مع قليل من الأصدقاء في منزله.

طبعا - كعادتي - لبيت الدعوة دون أي سؤال أو تردد، خصوصا أنني بحكم خبرتي أعرف أن أهل بيته يتقنون طبخة «الصيادية» - والصيادية لمن لا يعرفها هي ضرب من أنواع الأسماك الجيدة، تطبخ مع الأرز، ولها طرق متعددة، وغالبا إذا أعجبتني لا آكلها بالملعقة والشوكة، وإنما بيدي، ونادرا ما أنتهي منها قبل أن أكون قد فقدت إصبعا أو إصبعين من أصابع يدي، وذلك من طعامتها.

أعود لتلك السهرة التي اتضح لي أنها جلسة أنس و«طرب»، فتهللت أساريري أكثر، وبدا لي أنه لم يكن هناك «اتفاق مسبق» بين المطرب والداعي، ومع ذلك فقد أبلى المطرب برفقة عازفيه الثلاثة بلاء حسنا، إلى درجة أن كل من كان حاضرا قام يرقص، أحدهم «يمرجح» كرشه أمامه، والثاني يتقافز كالسعدان، والثالث «يدق رقبة»، والرابع أخذ «يكهرب» بأكتافه وكأنه أصيب بنفاضة، أما صاحب الدعوة فقد قلبها أخونا في الله إلى «سامري»، وأخذ يتبطح على الأرض مثلما يتبطح «السلوقي»، وكنت الوحيد تقريبا الذي جلس في مكانه مثل «الصبّة» ولم يشارك، رغم أن الطرب قد استخف بي، إلا أن المقولة التي علمونيها في الصغر ما زالت متحكمة بي وهي: «من رقص نقص»، وبحكم أنني لا أريد أن أنقص لهذا لم أرقص، وقد أفعل ذلك عندما أكون وحدي في الغرفة والباب محكم الإغلاق.

وفي نهاية السهرة وقبل أن نتوجه لمائدة العشاء في الثالثة صباحا، إذا بصاحب المنزل يمد للمطرب مظروفا مغلقا - ويبدو مثلما عرفت مؤخرا أن المظروف كان يحتوي على عشرة آلاف، مع رسالة كتب فيها: «ولك فوقها (مائة ألف شكر) بعدما أمتعتنا بغنائك هذه الليلة»، وتفاجأنا بالمطرب يرتفع صوته قائلا له: «إنني كنت أتمنى أن يكون في الظرف مائة ألف (مضروب)، ومعه رسالة واحدة فيها (شكر واحد)».

وما إن قال ذلك حتى تكهرب الجو، وفسدت السهرة.

ولن أحكي لكم ماذا حدث بعد ذلك.. «فالمجالس أمانات».

[email protected]