شوارعنا تكذبنا

TT

في الأسابيع الماضية صادف أن مشيت وزوجتي وطفلتنا البالغة من العمر سبعة شهور في شوارع أكثر من عاصمة عربية تتمتع بشتاء دافئ وشمس لطيفة تغري بالتنزه خارجا، ولأنها المرة الأولى في حياتي التي أسير فيها في شوارع مدن عربية برفقة عربة طفل، اكتشفت آسفا أن شوارع هذه المدن مصممة للأصحاء جسديا ممن هم في سن الشباب فقط، فلا شارع واحدا يسمح بحركة عربة الطفل، إذ لا بد وأن تحمل الطفل والعربة معا عندما تريد الانتقال من رصيف إلى رصيف آخر أو إلى الشارع، وحتى على الرصيف الواحد لا توجد في كثير من الأحيان مساحة كافية لحركة العربة، فإما أن تصطدم بلوحة الإعلانات الضخمة المزروعة وسط الرصيف، أو أن تعرقلها كومة من الرمال والحصى تظهر فجأة، أو أن تجد سيارة قرر صاحبها أن يضعها وسط رصيف المارة، أو أن البلدية قررت أن تنصب عمود الكهرباء في منتصف الرصيف فلا تترك مسافة كافية على جانبيه لمرور العربة. ليس هناك خطوط واضحة للمشاة، ولا منحدر «رامب» لتنزلق عليه العربات، ولا تعبيد معقول للشوارع، ولا ارتفاعات مريحة للأرصفة، لا شيء.. وإذا كان هذا هو الأمر بالنسبة لعربات الأطفال، فماذا عن أصحاب الإعاقات الجسدية الذين يستخدمون الكراسي المتحركة أو الذين لا يتمتعون مثلا بنعمة النظر، وماذا أيضا عن كبار السن الذين لم تعد عظامهم الواهنة تساعدهم على القفز من على الأرصفة العالية والدخول في متاهات أكوام الرمل والحصى؟ كيف لهذه الشرائح من أبناء المجتمع أن تسير في مدنها؟ أم أنها يجب أن تعتكف في منازلها بانتظار من يحن عليها ويعينها على الخروج؟

«دوشنا» الإخوة المناضلون من نواب الشعب في البرلمانات العربية وكذلك النشطاء سياسيا بالصراع العربي - الإسرائيلي وأفغانستان والتمرد في نيكاراغوا، ولم يشغلوا أنفسهم مثلا بشوارع مدنهم وسلامتها مما قد يسمح للناس بحركة تيسر الحياة للضعفاء جسديا منا ممن لم ينعم الله عليهم بالقدرة على تخطي الحواجز والمتاهات والأرصفة العالية. «الجهاد هنا» في شوارعنا ومدننا، ومن لم ينجح في الجهاد الداخلي فلا يمكن أن نصدق بأنه سيحرز نصرا خارجيا، فلا يستقيم للعقل أن نناضل من أجل تحرير أرض لن نكون قادرين على تعميرها، غرقنا في الجهاد الخارجي وتجاهلنا الجهاد الداخلي، فمن حق مواطنينا أن يشربوا ماء نقيا، ومن حقهم الرعاية الصحية، ومن حقهم التعليم المحترم، ومن حقهم الحصول على فرص عمل والحلم بمستقبل كريم، تركنا هذا وجيشنا كل طاقاتنا ومشاعرنا من أجل الجهاد الخارجي ومن أجل انتصارات عرفنا فيما بعد أن معظمها كان هزائم. الانتصار يبدأ من الداخل، فلا يمكن لمن فشل في عقر داره أن يتسيد خارجها.

في المدن الغربية، لندن مثلا التي أعيش فيها، كل شوارع المدينة ومطاعمها ومستشفياتها ومؤسساتها، وتحت طائلة القانون، لا بد وأن تضع في الاعتبار حركة غير القادرين جسديا من أطفال وأصحاب إعاقات جسدية وكبار السن. والحق في السير يكون غالبا للمشاة، والعربات تأتي لاحقا، أي أن هناك حالة من الأمان عندما يسير المرء وأسرته في الشارع. أما في مدننا التي نفخر بأنها عريقة أحيانا أو غنية أحيانا أخرى، فلا أمن ولا أمان حتى في هذه الأشياء الصغيرة. وظني لو أن السيدة الأولى أو السيد الأول في هذه المدن حاولا، ولو من باب المغامرة، جر عربة طفلهما أو طفلتهما في الشوارع لأدركا حجم المعاناة.

انطلقت حناجرنا دفاعا عن قضايا تصورنا (بل صُور لنا) أنها أكبر وأهم من قضايانا الحياتية اليومية، وكأن تحسين شروط حياة البشر ترف لا تسمح به ظروف النضال في سبيل القضايا القومية الكبرى. أنا لا أطالب بالتوقف عن الحديث عن القضايا القومية الكبرى حتى لا أفهم خطأ، ولكنني أقول بأن من يتجاهل بأن شوارع بلاده مهترئة ومشافيها متهاوية ويتصدى للنضال والحديث عن الجهاد الخارجي فلا يمكننا تصديقه أو المصادقة عليه أخلاقيا على الأقل. أي من لم يأبه لحال أهله الذين إلى جواره ويراهم كل يوم ويبقى صامتا حيال معاناتهم، فلن نصدقه عندما تنطلق حنجرته مدافعة عن الآخرين. فأن تكون شوارعك خربة وتدعي النضال في الخارج، فهذا نصب واحتيال لا يصدقه عاقل.

كنت مع صديق وقلت له إن شوارعنا مصممة للأصحاء جسديا، فرد بتهكم قائلا: نعم، حتى تحتمل العيش في هذه الأوطان يجب أن تكون من الأصحاء جسديا والمرضى نفسيا. إن ما نعيشه في حياتنا اليومية في مدننا لا يوحي بأن استقلالنا كان من أجل مواطنينا. عقود كثيرة مرت منذ الاستقلال ولم تحظ مجتمعاتنا بشيء يليق بالبشر. ورغم كل هذه الإخفاقات في القضايا الحياتية للمواطنين، نجد بيننا من يفتخر بإنجازات كاذبة في شتى أنواع المعارف، بل وتمنح جوائز لتلك الإنجازات الكاذبة في الآداب والثقافة والبيئة، ولا تخصص جوائز للشوارع النظيفة والمشافي المتطورة والجامعات والمعاهد المتقدمة. لدينا أيضا كتاب وإعلاميون ومعدو وثائقيات لا يتعرضون لحالة شوارعنا، هم منشغلون فقط بالنضال (الكبير) في سبيل قضايا (كبرى) وبالبطولات الوهمية. لدينا شهود على العصر، ولا شهود على ما جرى للوطن داخليا. الحديث والكتابة عن الخارج أسهل، كما أنه يمنح صاحبه شهرة سريعة ومن دون تكلفة حقيقية. أدمن راغبو الشهرة من كتاب وإعلاميين ومناضلين في بلداننا الحديث عن تهديدات الخارج والصمت على مخازي الداخل، أدمنوا النضال الرخيص، أدمنوا الكذب على الناس وعلى أنفسهم. وهؤلاء لم يأتوا كنبت شيطاني، فهم ولدوا وترعرعوا في كنف أنظمة تفضل الكذب على الصدق. المكافأة يجب أن تمنح لمن يكشف العورات الداخلية، لا لمن يداريها بكتابات كاذبة عن نضال خارجي كاذب نعرف جميعا حكاما ومحكومين أنه مسرحية هزلية. لقد كتبت في السابق عن جوائزنا «اللي زي قلتها»، فهل سيصحو ضمير القائمين على هذه الجوائز عندنا ليكافئوا أهل الصدق بدلا من مكافأة جوقة المنافقين والكذابين؟

مقياس التقدم في الدول هو جودة الخدمات التي تقدمها للفرد، ومنها تلك المساحة في الشوارع التي تمنحها الدول لعربات الأطفال وأصحاب الاحتياجات والإعاقات الجسدية وكبار السن، مقياس التقدم هو مراعاة أحوال الضعفاء. شوارعنا لا توحي بأننا دول تقدمت أو خطت خطوة واحدة على طريق التنمية. كيف لنا أن نصدق من يدعون بأنهم جادون في النضال الخارجي وتحرير الأرض، بينما شوارعهم في الداخل ينقصها الكثير. وببساطة شديدة: إذا ما رأيت بلدا ليس فيه شوارع تحنو على الضعيف الداخلي، فلا تتوقع أن تنتج قوة في الخارج تحرس الأرض أو تحافظ على العرض. محك الكذب والصدق في الداخل لا في الخارج.