«أفاتار»: كوكب «باندورا» أم فلسطين!

TT

على الرغم من الإبداعات التقنية التي يتخم مخرج «أفاتار» فيلمه بها، فإن سبب رواجه في العالم ليست هذه الإبداعات السينمائية فقط، وإنما المضمون الذي يلامس ضمير كل إنسان حي، والذي لا تغيب عن مشاهديه رمزية مكونات الفيلم، فترى أمامه مشاهد وتفاصيل الصراعات الدائرة اليوم بين الشعوب والغزاة، من العراق إلى أفغانستان وباكستان، وقبل ذلك جميعا فلسطين. وبالطبع فإن جوهر هذه الصراعات وسببها الدائم هو الجشع الذي يؤدي إلى سفك الدماء، تحت ذرائع واهية تخفي الهدف الحقيقي، النفط مثلا، وراء موافقة الغرب «الديمقراطي» و«المتحضر» العلنية للاضطهاد، والقمع، والإرهاب الإسرائيلي، الذي يلحق الدمار والقتل بالفلسطينيين منذ أكثر من سبعة عقود.

ليس صحيحا أن مضمون الفيلم بسيط، أو أنه يتناول «انقطاع صلة البشر مع الطبيعة التي باتوا يعتبرونها مجرد منتج للبروتين»، كما قال جيمس كاميرون، مخرج الفيلم، بل إنه يرمز إلى جوهر الصراعات الدائرة في عالم اليوم وتشعباتها المادية، والأخلاقية، والإنسانية، بأسلوب سينمائي رمزي، ومن دون مناظر دماء لم يعد يحتمل العالم رؤيتها. لقد عشت في هذا الفيلم قصة الشعب الفلسطيني، والعراقي، والأفغاني، واللبناني، والحروب الغاشمة على بلدانهم، حيث يتعامل الغرب مع هذه الشعوب كما لو أنهم أبناء قبيلة «النافي» الأصلية بثيابهم الزرقاء، في كوكبهم «باندورا»، بحيث يتمكن مشاهدو الفيلم من كافة أنحاء العالم من معرفة جوهر هذا الصراع الذي يتم تشويهه والتغطية عليه بمنظومة من الألاعيب الإعلامية، والتي أصبحت بمثابة حقائق في أذهان الغربيين، كي تطرد من ضميرهم ضرورة العمل من أجل العدالة، وإحقاق حقوق الناس الأصليين التي تتعرض للسرقة والدمار والتشويه كل يوم، وكي يشعروا بالحاجة إلى تطوير منظومة القيم الغربية لتتقبل وجود الثقافات الأخرى بتنوعاتها المتعددة.

لقد قدم المستوطنون إلى كوكب «باندورا» طامعين في ثروات هذا الكوكب، وكانت كل حساباتهم تركز على الفوائد المادية لامتلاكهم الأرض وثرواتها الطبيعية هناك، وكي يفعلوا ذلك فلا بد من قتل أو تهجير «النافي» المتمسكين بأرضهم، وطبيعتهم، وشجرتهم المقدسة، وعاداتهم التي تظهر احترامهم لقدسية الحياة البشرية والطبيعية على حد سواء، وذلك في تناقض كامل لموقف المستوطنين القادمين، الذين يهزأون من المقدسات، ومن احترام الإنسان للطبيعة، ولا يرون في الأشياء سوى ما يدر عليهم المال الوفير. هذا التناقض بين قيم الثقافتين هو، بحد ذاته، جوهر قيام إسرائيل، حيث يتم منذ سبعين عاما القتل اليومي للفلسطينيين، وتهويد مقدساتهم، واستيطان أرضهم، ومصادرة مياههم، واقتلاع أشجارهم، والسخرية من معتقداتهم، ومن تمسكهم بأرضهم، ومن طريقة عيشهم. أما الذين أقاموا هذه المستوطنة المدججة بالكراهية، وزودوها بأسلحة الدمار، فإنهم معروفون بجشعهم للنفط!

لا يحتاج الفيلم إلا أن يتبنى سكان كوكب «باندورا» الأصليين من قبيلة «النافي» علم فلسطين، ويرفع الغزاة علم إسرائيل، لتقرأ تفاصيل الاستيطان الإسرائيلي لفلسطين بتقنية سينمائية حديثة، ولكن بدقة رمزية توضح جوهر هذا الصراع، وينطبق ذلك على الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، كما ينطبق على مصير شعوب وقبائل أبيدت في الولايات المتحدة وأستراليا وأميركا اللاتينية. أقترح أن يلبس المتظاهرون ضد الاحتلال الإسرائيلي القمصان الزرق لقبيلة «النافي»، كي يسهلوا على الإنسان الغربي فهم قضيتهم.

يستهدف الغزاة دوما مقدسات الشعوب، لذلك تقوم إسرائيل بعملية سطو أخرى بمصادرة المقدسات الإسلامية في الحرم الإبراهيمي الشريف، ومسجد بلال اللذين، كالمسجد الأقصى، يمثلان فروع الشجرة المقدسة لمئات الملايين من المسلمين، الذين يدافعون عنها بقدر دفاعهم عن أرضهم.

إن ما تفعله سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى نشر الحروب والإرهاب في المنطقة والعالم، هو إبادة حضارة، وشعب، وقيم، وطريقة حياة، وبيئة طبيعية واجتماعية منسجمة مع ذاتها للاستيلاء على الثروات والمياه والأرض، بحيث يقول رئيس وزراء الكيان: «إن هذه المعالم هي بأهمية الجيش الإسرائيلي»، لأن الهدف هو إبادة الهوية الأصلية للأرض والسكان واستبدالها بهوية للمستوطنين لا تعرف سوى النهب، ومستعدة أن ترتكب أبشع الجرائم في سبيل تحقيق هذا النهب.

واستكمالا للموضوع الذي لا يمكن لفيلم أميركي أن يغوص فيه، دون الاستعانة بالرمزية، فإن إبادة حضارة عريقة، يستوجب، بالنسبة للغزاة دوما، اتهام السكان الأصليين بأبشع التهم، ومع أن الفيلم تضمن إشارات، على لسان الغزاة، إلى «وحشية السكان الأصليين»، والسخرية من مقدساتهم وطرائق حياتهم، ولكن ترجمة هذا البند في الصراعات الدائرة اليوم تشكل جزءا مهما من الواقع السياسي والإعلامي على كوكب الأرض، إذ كيف يمكن تبرير شن حرب على شعب العراق الضارب في الحضارة والعراقة والقيم المعرفية والأخلاقية؟ وكيف يمكن ارتكاب المجازر طوال أكثر من سبعة عقود ضد المدنيين في فلسطين، واغتيال قادتهم في أصقاع الأرض، إذا لم يترافق ذلك مع تشويه إعلامي لصورة الإنسان الأصلي، وهو هنا عربي مسلم، وتتهمه بالتخلف والإرهاب، وتبرر قتله لأن نساءه يرتدين الحجاب، وتدعي أن قتله «ضروري لإنقاذ الحضارة الغربية من الخطر»، الذي لا يمثله السكان الأصليون وحسب، بل ومعتقداتهم، وعلاقتهم بالله والطبيعة والإنسان، حتى إن عنصرا معماريا كالمئذنة يمثل «خطرا» بالنسبة لهم؟

إن الدعاية الغربية الإعلامية التي تذرعت بمكافحة الإرهاب، كوسيلة لتقويض حضارة ومقدسات الشعوب الأصلية، ما فتئت تغطي جرائم الغزاة الطامعين ضد هذه الشعوب بذريعة مكافحة الإرهاب، ونشر الديمقراطية، وما فتئت تغض الطرف عن الاغتيال المتواصل للبشر والمقدسات، كما هو الحال في الانتهاكات المستمرة للحرم القدسي الشريف. وتصنف هذه الآلة الإعلامية البشر إلى نوعين: الإرهابي، وهو - طبعا - من السكان الأصليين، أي العرب المسلمين حصرا، والمستوطن الإسرائيلي الذي لا تمسه صفة الإرهاب، حتى وإن ارتكب أبشع الأعمال الإرهابية على مرأى ومسمع من العالم برمته، وإلا كيف نفسر اتهام مسلمين بالإرهاب، واغتيالهم لمجرد الشبهة؟ وعدم إطلاق صفة «إرهابي» على من قدموا من عواصم مختلفة في وضح النهار، مستخدمين أحدث التقنيات والتجهيزات، ومزودين بالجوازات الأوروبية والأسترالية لممارسة عملية إرهابية في دبي؟

لقد انشغل الإعلام بالكشف عن جوازات «القتلة» وسمى العملية بـ«الاغتيال» فقط، لأن الذي اغتيل هو عربي مسلم وفلسطيني، والذين اغتالوه هم من المستوطنين الإسرائيليين. والغريب هو أن العالم الغربي، الذي ينتفض لاحتمال قتل نفس إنسانية بعملية إرهابية، لم يصف هذه العملية الإرهابية المعقدة، وقد وافق عليها رئيس وزراء الكيان، وتعاونت من أجل تنفيذها أجهزة استخبارات غربية، التي وفرت للقتلة الإسرائيليين جوازات السفر الصادرة من بلدانهم، ويسمونها بدلا من إرهابية بـ«الحرب السرية»، ويسمون القتل والإرهاب الذي يمارسونه بـ«القسوة»، والأعمال الإرهابية بـ«عمليات» أو «عمليات سرية قاسية»، وحين يتحدثون عن الموساد الإسرائيلي، الذي يرتكب هذه الجرائم طوال عقود، يعبرون عن خشيتهم على «سمعته»، وليس على ما تمثله أعماله من جرائم بحق أناس أبرياء، كل ذنبهم أنهم متمسكون بأرضهم وحقهم في الحياة والحرية والكرامة. لا بل ويروجون أن عملية اغتيال هؤلاء يجب أن تكون «مفهومة دوليا»، أي أنهم يوافقون، ولكن بشكل غير معلن رسميا، على عمليات الإرهاب ضد العرب.

إن هذا التقسيم، الذي لا يصف أي جريمة يرتكبها الإسرائيليون بحق السكان الأصليين بـ«الإرهاب»، يكشف عن أن تقسيم العالم يتم على أساس عرقي طائفي، حيث يعتبر العرب المسلمون هدفا مشروعا يقتله المستوطن الأبيض القادم، والطامع في النفط والأرض، متى يرغب ويشاء. وحتى حين يدعي الغربيون قلقهم من «عمليات» كهذه، فهم يصفونها بـ«التصرف اللاقانوني»، لإعطاء الانطباع وكأنهم يؤمنون بالقانون والحقوق المتساوية لجميع البشر، مع أن كل السياسيين، التي منحت بلدانهم جوازات سفر للقتلة الإسرائيليين، لم يدينوا الاغتيال، بل أدانوا لفظيا «استخدام إسرائيل لجوازات سفر مزورة» وحسب!

ما نكتشفه كل يوم، هو حجم الدعم الغربي الواسع المقدم لإسرائيل للقيام بأعمال إرهابية داخل فلسطين وخارجها، وهذا ما يقصده السياسيون الغربيون حينما يعبرون عن دعمهم «لأمن إسرائيل»، بالإضافة، طبعا، إلى تزويدها بالقنابل الذرية، والعنقودية، والفوسفورية، وكذلك بالطائرات والغواصات والصواريخ القادرة على حمل تلك القنابل إلى العواصم والمدن العربية، كي تقتل المزيد من المدنيين العرب.

فيلم «أفاتار» يحكي قصة الناس الأصليين في كوكب «باندورا»، ويعبر عن الظلم الذي يلحقه الغزاة الطامعون بشعب «النافي»، بذرائع وحجج مختلفة، فمن سيجرؤ على إنتاج فيلم فلسطين الذي سيحكي قصة كفاح العرب من أجل الحرية والعدالة على كوكب الأرض، ومن أجل الخلاص من ظلم المستوطنين الإسرائيليين وذرائعهم التوراتية.