«أعز ما يطلب»: الكتاب أم كرة القدم؟

TT

أسترق النظر لعيون الزوار، وهي تجول في أروقة المعرض الدولي للنشر والكتاب بالدار البيضاء، تبدو باردة، باهتة، خالية من أي أمل أو أفق انتظار أو دهشة، ينتابها إحساس بالعبثية واللاجدوى، اللهم إلا بريق الاستمتاع بلذة التسوق وطعم التجوال، هي بالطبع ليست نفس تلك العيون التي تطارد «كرة القدم» «ملحمة العصر» أو «أفيون الشعوب» في ردهات الملاعب، بلهفة وبريق أمل وحماسة، مصحوبة بحالة من الهيستريا والهوس.

والمميز أن المعرض الذي يحمل شعار «العلم للقراءة: أعز ما يطلب»، جاء في دورته السادسة عشرة، محملا بحقائب فنية وثقافية وفكرية مغرية، حيث يحتفي بإنتاجات مغاربة العالم، وينظم «أولمبيادا للقراءة»، لترسيخ ثقافة الحفظ لدى الناشئة؛ هو فضاء حر، منفتح يسعى للسمو بنا من صلافة الوقائع المستجدة، لكي تذوب فيه كل الحدود والجغرافيات والأزمات والخلافات، دخول ثقافي مغربي بامتياز، يرفض التقوقع داخل إطار ثقافي واحد، لينفتح على جميع الأجناس والتعبيرات الفنية والفكرية، يأتي كي يرتق نسبيا ذلك الخرق الذي تحدثه السياسة، ويجعل الكتاب شأنا جماهيريا، ويحطم جدار برلين التوتر والخلاف بين الدول والمبدعين والمفكرين، وينثر ورود الفن والكلمة والموسيقى في الأمكنة، تخفيفا من حدة الأسمنت.

يحتفي معرض النشر والكتاب كالعادة بالإبداع، والجمال، والفكر المتنور الرصين، في زمن يتم الاحتفاء فيه بالصورة والإثارة، ويحشر الأناة الخلاقة المبدعة في زاوية السكون والموت، وفي زمن يلمح فيه المثقف العربي عند القارئ، نظرات ازدراء لمهامه التنويرية، واستخفافا بمشروعه الفكري والإبداعي؛ هذا القارئ المستهلك، المقهور، المغلوب على أمره، والذي يفضل شراء نصف كيلو لحم، عوض شراء ديوان شعر أو رواية، وحتى ولو سافرت به، ولو لحظيا، في عوالم الإشراق والغواية، وحتى ولو أبان هذا الكتاب عن عمقه وجديته، وكان كما يقول الجاحظ: «وعاء ملئ علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا وجدا»، فلن يحل هذا القارئ بأي شكل من الأشكال أزمته الاقتصادية.

وقد يبدو من المجحف وضع الكتاب في مقارنة مع كرة القدم، ولكنها مقارنة جائزة، في جميع الأحوال، على اعتبار أن المعرض، في إحدى دوراته السابقة، تزامن يوم له مع إحدى المباريات «المهمة» لكرة القدم، فأثر ذلك على الإقبال الجماهيري المعتاد على أروقة المعرض، بشكل يستلزم طرح هذا السؤال: ما «أعز ما يطلب»: الكتاب أم كرة القدم؟

كلاهما، أي الكتاب وكرة القدم، يعد متنفسا اجتماعيا ونفسيا، ووسيلة لتفريغ الشحنات الانفعالية، وكلاهما يستلزم الكثير من الإبداعية والتجديد والدربة والممارسة والإتقان، يقول الباحث المغربي سعيد بنكراد في معرض حديثه عن كرة القدم: «ليست سوى محاولة عصرية لتصريف مجموعة من الانفعالات المتنوعة، بعضها آني شخصي، وبعضها اجتماعي يعكس حالة إحساس جمعي، وبعضها الآخر مغرق في القدم، قد يكون صورا نمطية أو إرثا نفسيا مخبأ في الدهاليز المظلمة للا شعور».

أما الشاعر والمخرج الإيطالي بازوليني، فيرى أن كرة القدم «لغة» تزخر بمجموعة من الرموز التي يمكن فهمها والتعامل معها. مثلما للكتاب «لغة»، يتوسل بها الكاتب كي يمرر مجموعة من الأفكار والأحاسيس للقارئ، لغة علمية كانت أو شعرية أو فكرية.. فمن المفروض على كلتا اللغتين أن ترتقيا إلى مستوى اللغة الكونية، الإنسانية، في تعاليهما على كل الإثنيات والطائفية والحسابات الضيقة، لتصيرا رديفا للهويات المتعددة، مع العلم أن فرنسا التي تضع اليوم الجدال حول «الهوية الوطنية الفرنسية» على صفيح من جمر، جدال يؤيده الرئيس الفرنسي ساركوزي، لكسب المزيد من الأصوات اليمينية المتطرفة في الانتخابات المقبلة، نسيت أو تناست أن الذي رفع العلم الفرنسي ليس هويتها المتزمتة، المنغلقة إلى حد العنصرية، لكن ذلك الفسيفساء من الهويات التي طغت على الألوان الثلاثة، وإن كان هناك من أفرغهما، أي الكتاب وكرة القدم، من هذه الهوية المنفتحة، ليأسرهما في كهف من التعصب والحقد والضغينة والإيديولوجية، بشكل يصل حد التطرف والعنصرية.

لكن في الوقت الذي تصبح فيه كرة القدم «كائنا إعلاميا» لترويج المنتوجات الاستهلاكية واستمرارا للسياسة، حيث إن تنظيم أول بطولة للعالم في كرة القدم اقترن بإرساء أسس الفاشية الإيطالية، وكان صدى لفوز النظام الفاشي، يصبح الأمر كذلك بالنسبة للكتاب في الزمن الاستهلاكي الرأسمالي، حيث يهيمن منطق الربح والخسارة عند دور النشر، ليلغي قيمة المادة وجودتها، وليفسح المجال لكتب التسلية والمتعة، أو تلك التي تساير الموضة، لإرضاء ذائقة أكبر جمهور يعيش «ديمقراطية استهلاكه».

وإذا كان الله سبحانه يميز أمام العلم والكتاب، بين شريحتين من الناس، عالمة وغير عالمة، استنادا إلى قوله تعالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون»، فأمام هذه القطعة المطاطية المكورة والمنفوخة المسماة «كرة»، يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، سواء كان مثقفا، أو جاهلا، أو فنانا، أو غنيا، أو فقيرا، أو رئيس دولة، أو من عامة الشعب..، ويشتركون في الأحاسيس والانفعالات، من هوس، وجنون، ولهفة يمكن أن تلاحق لعبة جميلة أو هجمة خطيرة، وتعابير وجه، سواء كانت ممتقعة أو منشرحة، وحركات، سواء كانت بقضم الأظافر أو التصفيق أو الإمساك بالرأس، وتعليقات، سواء كانت مصفرة أو مهللة أو مولولة.

كانت العرب تصف من أفلس بعد غنى بقولهم «أصابته حرفة الأدب»، بحيث ينتهي بهم الأمر إما إلى حرق كتبهم (أبو حيان التوحيدي)، أو السكن في المساجد (جلال الدين السيوطي)، الذي ألف حوالي 561 كتابا، وكذا الكندي والرازي.. لكنهم لم يسلموا من الفقر، فالفقر عادة متأصلة عند الكاتب العربي، في حين أن لاعب كرة القدم يمكن أن يجني من ركلة واحدة أموالا طائلة، فالفرق بين الكاتب ولاعب كرة القدم شاسع، بحجم امتداد الملاعب، ولا يمكن محوه ولو بآلاف المجلدات.

لكن إذا كانت هناك أفواج مهمة تزور الملعب، بلهفة وأمل، بحجم امتداد العشب، فقط لسواد عيون «كرة القدم» (معبودة الجماهير)، أو «الأنثى»، كما ينعتونها، المدللة، التي قد تطاوعك، وقد تستفزك، وتعاند، وتحتج على غياب المرونة والرقة، فتغير رأيها وترفض الانصياع لإغراء شباك المرمى، ستنبهر وأنت تزور أروقة المعرض بالإصدارات المغربية والعربية والأجنبية التي تعرف حيوية وانتعاشة خاصتين، وبالأفواج المهمة التي تحج إلى المعرض، لكن سرعان ما ستكتشف، وأنت تترصد خطواتهم بين الأجنحة، أن أغلبهم حجوا إلى المعرض، لكن، للأسف، ليس لسواد عيون الشعر أو الإبداع والثقافة بشكل عام، بل حبا في كتب الطبخ وكتب الأطفال والكتب الدينية والكتب المدرسية، وهذا أمر لا يمكن إلا أن نفخر به في بلدنا، من دون أن يمنعنا هذا الفخر من مواساة وتعزية دواوين شعرية وأعمال روائية وفكرية، تقعد على الرفوف، يتيمة، ممتقعة، تندب حظها، وتلوك صمتها ويتمها على رفوف المكتبات، والاعتراف بتواطؤ خفي، بين الأسرة والنظام التعليمي على جعل الكتاب من النوافل، أو ديكورا على رفوف المكتبات، وعدم النبش في ثنايا كتاب إبداعي إلا في فصول الدرس، ربما عن وعي أو عن غير وعي،. ناهيك عن تقاعس دور النشر عن تحديث إنتاج هذا الكتاب في مادته وحجمه وشكله الجمالي، وتطويره بشكل يواكب فيه المستجدات العالمية والثورة المعلوماتية والاتصالاتية التي أنجبت وسائط أخرى، تنافس هذا الوسيط المعرفي. وصرف الأموال الطائلة من قبل الدولة، تشجيعا للأقدام والصياح، عوض الأقلام والعقول.

* كاتبة من المغرب