لبنان: حيث يكذّب الواقع المر الأحلام الوردية

TT

«أنا لا أؤلف نكتا، بل أرصد أداء الحكومة وأسوق الحقائق»

(ويل روجرز)

ما عاد ينقص لبنان والشعب اللبناني غير إجراء الانتخابات البلدية - تأملوا.. البلدية - وفق نظام التمثيل النسبي، وخفض سن الاقتراع إلى الـ18 سنة بدلا من الـ21 سنة، كما هو معتمد حاليا.

فكل شيء في لبنان، وفي حياة اللبنانيين، على ما يرام وتمام التمام.. لولا «نغصتي» النقص في الديمقراطية التمثيلية على المستوى البلدي، وفي فئة الشباب!

المستقبل الاقتصادي والتنموي مضمون والحمد لله. والسيادة الوطنية قبلة أنظار الدنيا. والحياة المؤسساتية - بما فيها الإدارة العامة والأحزاب والنقابات - مضرب المثل في الكفاءة والتجرد في رياح العالم الأربعة. ووعي المواطن مسؤولياته وحقوقه وواجباته إزاء الدولة وباقي شركائه في الوطن يحتاج فعلا إلى «خرزة زرقاء» لرد عين الحسد.

ثم إن لبنان، بقدراته المحدودة، العاجزة حتى عن إطفاء حرائق غابات موسمية من دون دعم دولي، قادر بمفرده - تقريبا - على إنقاذ شرف الأمة، وتحرير الأراضي المغتصبة بقوة السلاح غير الحكومي، بينما تُعقد تحت قرع طبول «الممانعة» الصفقات التسووّية التعايشية مع العدو الصهيوني المغتصب من حوله وفوقه وعلى جانبيه.. بتواطؤ يظهر، يوما بعد يوم، كم هو مزمن ومتجذّر.

نعم، ما عاد ينقص لبنان وأهله إلا التمثيل النسبي في الانتخابات البلدية وخفض سن الاقتراع حتى يصبح نسخة عربية «ممانعة» من دول اسكندنافيا.

قبل الزلزال السياسي والأمني الذي شهده لبنان عام 2005، وفي عزّ الهيمنة الفعلية لما سمي في حينه «النظام الأمني اللبناني - السوري» (أو السوري - اللبناني.. لا فرق)، زرت مكتبة عربية في إحدى ضواحي لندن البعيدة يملكها صديقان، الأول مسيحي أرثوذكسي فلسطيني والثاني مسيحي كاثوليكي لبناني. وما إن وصلت حتى بادرني الثاني «أهلا.. أهلا، جئت والله جابك. كنت قبل دقائق أشرح لنديم (الصديق الفلسطيني) كيف يتدخل السوريون في لبنان، وكيف فرضوا أخيرا تأجيل الانتخابات البلدية لكي يمنعوا المعارضة من الفوز. أرجو أن تشرح له هذه النقطة ليدرك ما يفعلونه». فأجبته «هل أفهم من كلامك أنك تحاول إقناعه بأن للانتخابات البلدية في لبنان أرضية سياسية حزبية؟». فقال مستغربا «طبعا، أليس الواقع كذلك؟».

عندها أخذت حرّيتي في الشرح، فذكّرته أنه من قرية مسيحية مائة في المائة في منطقة المتن (تمثلها اليوم في البرلمان كتلة ميشال عون.. «الحاج» أخيرا إلى مسقط رأس مار مارون بشمال سورية!)، وأن السّواد الأعظم من سكانها محسوب في خانة «معارضي» الوجود الأمني السوري. وبالتالي, فلا وجود حقا لمعارضة أو لموالاة، لأن مقوّمات التنافس المحلي مقوّمات عائلية بحتة بين عائلتين كبيرتين. وما يصدق على قريته، يصدق في الشق العائلي - العشائري على معظم قرى لبنان، ومنها قريتي، رغم اختلاف التركيبة الطائفية.

وفورا، ابتسم وهز برأسه، قائلا «أف.. معك حق. كيف لم أنتبه؟ لمعلوماتك عندما حاول أخي أن يشكل قائمة وعرض فيها منصب رئيس البلدية على شخص طيب من العائلة المنافسة، لأنه من خطنا السياسي نفسه، جاءه كبار عائلتنا ولاموه قائلين إن هذا المنصب يجب أن يظل للعائلة، ولا يحقّ له ولا لأي كان التفريط في هذا الامتياز».

هذا مثال بسيط على معايير السياسة المحلية في لبنان، مع العلم أن مراقبة السياسة العليا توحي بأنه ينطبق حتى على أرفع مستويات الممارسة السياسية، بكل مناكفاتها و«إلغائيتها» وعشائريتها. ومن واقع تجربتي في بريطانيا، ورصدي الجدل القائم حتى في هذا البلد الراقي العريق في ديمقراطيته حول النسبية، يتبيّن لي أن تطبيقها في بلد كلبنان - تحكمه أصلا المحاصصة الطائفية - خيار ساذج وعبثي لا طائل منه.

أصلا لا يصوّت اللبنانيون على أساس مطلبي، ولا أحزابهم أحزاب مطلبية, ولا هم في وارد محاسبة الزعيم أو الحزب الذي يتاجر بعواطفهم وأمانيهم. بل تراهم يندفعون بفعل الغريزة وانطلاقا من كره «الآخر» إلى صناديق الاقتراع للتصويت «ضد» قبل أن يكونوا «مع».

ثم ماذا عن خفض سن الاقتراع؟ أصلا التفاوت في النمو السكاني للطوائف - لصالح المسلمين - جعل من هذه القضية فخا خطيرا. وأطلق من جديد الدعوات لتصويت المهاجرين، الذين يقال إن غالبيتهم من المسيحيين. ومن ثم، فرط خلال جلسة التصويت «الوحدة» المزعومة للتكتلين الكبيرين «14 آذار» و«8 آذار» فاقترع غالبية النواب الشيعة وما تبقّى من نواب «الحركة الوطنية» المأسوف عليها لصالح خفض سن الاقتراع.. وامتنع الباقون عن التصويت لأنهم لاحظوا أن هذا المطلب في ظل التحولات الديموغرافية اللا متوازنة غدا - عمليا - مطلبا طائفيا. وعندما حصل الربط بتصويت المغتربين، اختار ممثلو الشعب اللبناني معالجة علة طائفية سافرة بعلاج طائفي سافر مقابل، فكشفوا كل صفحات النفاق المتبادل حول الوحدة الوطنية والتعايش والمصير المشترك ونهائية الوطن.. وغيرها من الشعارات الفارغة التي يثبت اللبنانيون اليوم أنهم أبعد ما يكونون عنها.

وماذا عن الجيل الموعود بالمشاركة، ممّن هم بين سني الـ18 والـ21؟

ما نرى ونسمع عن أسلوب ممارسته السياسة عبر الانتخابات والمنتديات الطالبية في الجامعات والمعاهد العليا، وما نرى ونسمع من فهمه القاصر للحياة الحزبية ونظرته التأليهية والانقيادية لقيادات الأحزاب و«التيارات» وممارساتها.. لا يشجع على الاعتقاد بأنه مؤهل للمساعدة على خلاص لبنان «ديمقراطيا». إنه مع الأسف الجيل الأكثر تعصّبا وانغلاقا، والأقل معرفة ونضجا، من أي جيل سابق. وعليه، لن يخسر لبنان الكثير إذا ما انتظر هذا الجيل ثلاث سنوات أخرى بعيدا عن أقلام الاقتراع قبل أن «يورط» باقي فئات الشعب بخياراته.

ثم، من ذا الذي يكترث بالخيار الديمقراطي في لبنان اليوم؟

لقد صوّت اللبنانيون خلال العام الماضي في آخر انتخابات عامة، واختاروا من حيث المبدأ إحدى كتلتين قليلتي التجانس لتكون الأكثرية، والثانية لتكون الأقلية. غير أن مفاعيل الاقتراع تبخّرت عندما نزل السلاح إلى الشارع لينهي أي حوار حقيقي في العمق حول القضايا التي تمسّ لبنان، وموقعه في المنطقة.

وبالأمس، كان المشهد في دمشق واضحا. والرسالة إلى اللبنانيين بليغة.

فهم شعب ممنوع أن يكون له دور في السياسات العليا. وقدره أن يظل تابعا صغيرا يقرّر مصيره الآخرون في الصفقات الإقليمية الكبرى.

إنه شعب من الأيتام على مائدة...!